رغم الهزيمة الكاملة وغير المتوقعة التي مني بها العدوان الإسرائيلي على غزة، والأداء المشرف للمقاومة هناك، فإن المشهد الذي سيظل يؤرق كل من أهمته نكبة غزة الأخيرة هو مشهد الاستغاثات: استغاثة تلك المرأة التي اتصلت هاتفياً بقناة الجزيرة لأن الدبابات كانت تقصف منزلها وهي بداخله؛ استغاثات أطفال ألهبت جلودهم نيران الفوسفور الأبيض؛ استغاثات العطشى والجوعى؛ استغاثات من هدمت منازلهم، ومن تقطعت بهم السبل. الكل يستغيثون الله، وهو سميع قريب مجيب. والبعض يستغيث الإخوة والجيران، ويتساءل: أين العرب؟
أما المستغاث بهم من الإخوة فهم بدورهم يستغيثون: الرئيس مبارك يناشد إسرائيل؛ الوزراء والقادة يستغيثون بمجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة وأمريكا وقادة أوروبا وطوب الأرض. أما الجماهير التي امتلأت بها الشوارع فقد كانت بدورها تستغيث بالزعماء وتستصرخهم لأضعف الإيمان، وهو فتح المعابر لإيصال الإغاثة إلى الضحايا من جرحى ومشردين وممن تقطعت بهم السبل. لم يدع أحد إلى تزويد المقاومة بالأسلحة، أو حتى استخدام الوزن الدبلوماسي العربي (وهو وزن الريشة أو دون ذلك) للضغط على العدو ومن يقف خلفه. غاية ما كان يطالب به المطالبون هو ترك المقاومة وأهل غزة العزل يواجهون وحدهم آلة الدمار الإسرائيلية التي هزمت وأرعبت كل جيوش العرب وجعلتها جميعاً مثل القواعد من النساء: لا تدافع عن حريم أو تذب عن وطن. وكان من أغرب ما سمعنا مناشدة أهل غزة المحاصرين العزل أن يصبروا ويصمدوا! أمة من مليار نسمة تحتمي بأطفال ونساء غزة العزل، وتصرخ مشجعة لهم حتى يواجهوا قنابل الفوسفور بأجسادهم، ويصمدوا تحت منازلهم المهدمة، بينما لا تستطيع هذه الجماهير الهادرة أن توصل لهؤلاء شربة ماء كما كانت النساء تفعل لجرحى الحرب في العصور القديمة.
هذا مشهد من العجز يلخص حال الأمة، فهي أمة خارج التاريخ، عاجزة عن الفعل حتى في أبسط صوره. أمة بلغ بها العجز أن تعلق آمالها في النصر على أضعف أفرادها: على المحاصرين العزل الواقعين تحت نير الاحتلال. وهذا وضع يدعو لتأمل عميق في هذه الحال، تأمل يتجاوز هذا الواقع المدهش إلى مدلولاته البعيدة. فالأمر يتعدى ملحمة غزة التي ناب فيها العزل عن المسلحين، والمحاصرون عن الطلقاء، والجوعى عن المتخمين في الدفاع عن وجود أمة تثبت باستمرار أن وجودها وعدمه سواء، وأنها قد أصبحت، كما قال الصادق الأمين، غثاءً كغثاء السيل. وهذا يعيدنا إلى الحديث عن طبيعة 'المقاومة' وظروف وجودها والدور المنوط بها في ظل هذه الأوضاع غير المسبوقة وغير المعهودة.
وكنا قد انتهينا في حديث الأسبوع الماضي إلى نقطة واقع الاعتماد المتبادل بين المقاومة وفريق 'العقلانيين' في المتلازمة العربية، وهو وضع يعود أولاً إلى عدم وجود دولة عربية قادرة على احتضان المقاومة بعد هزيمة حزيران 1967 المدمرة. ولم تكن الهزيمة الكاسحة هي المشكلة ولكن العقلية الانهزامية التي ولدتها، وخاصة في مصر الساداتية، هي التي خلقت الواقع الجديد. فقد أعلن السادات اعتقاده الجازم بأن محاربة إسرائيل تعني محاربة أمريكا التي تمسك كما قال بتسعة وتسعين بالمائة من أوراق اللعبة، واستنتج من ذلك ضرورة كسب ود أمريكا عبر التقرب من إسرائيل. وقد كان سبقه بالإيمان بذلك قادة عرب كثر، رأوا أن أمريكا قادرة على كل شيء، وأن العرب عاجزون عن كل شيء، فتعبدوا في ذلك المحراب ونالوا ثواب السبق. ولعل الطريف أن التقارب بين مصر وأمريكا بدأ في السنة التي أعلنت فيها هزيمة أمريكا في فيتنام، كما أن المعاهدة المصرية الإسرائيلية وقعت في السنة التي تفجرت فيها الثورة الإسلامية في إيران، مكتسحة أحد أهم قلاع الهيمنة الأمريكية في المنطقة. أي أن الآيات كانت تشير إلى تهاوي الصرح الأمريكي وعجز أمريكا عن الدفاع عن حلفائها الأوثق، فتأمل.
وفيما بين مرحلة الهزيمة والتسليم بها مرت مرحلة 'ابتكار' المقاومة واستخدامها كأداة في يد الدول المعنية، في محاولة لتمويه عجز الأنظمة من جهة، ومحاولة لاستثمار هذا العجز من جهة أخرى. وكنتيجة لذلك وجدت قوى المقاومة نفسها في الشرك، بحيث أصبحت معظم فصائل المقاومة أدوات في أيدي الدول المضيفة والممولة تستخدمها في صراعاتها البينية. وقد كانت حركات المقاومة منذ البداية تتخذ من الدول الأضعف مسرحاً لنشاطها، حيث تمركزت في الأردن ولبنان. أما الدول الأقوى مثل مصر وسورية والعراق فإما أنها لم تسمح بوجود المقاومة أصلاً، أو أنها وضعتها بحزم تحت سيطرتها التامة، مما جعلها مثل جيوش تلك الدول: عاجزة عن كل مهمة سوى القمع الداخلي. وقد وصل التنازع مع حكومات الدول الأضعف إلى حروب أهلية خسرتها المقاومة.
أما حركات المقاومة الراهنة فقد نشأت من حطام الحركات السابقة والدول التي كانت تحتضنها، حيث أدى طرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت إلى انقطاع الآمال التي علقت عليها لمواجهة الاحتلال، فكانت النتيجة انتفاضة الداخل وحركات حماس والجهاد الإسلامي التي نشأت في كنفها. أما في لبنان فإن رحيل المنظمة وحلول إسرائيل محلها ولد المقاومة اللبنانية التي كان اللون الإسلامي هو الغالب عليها أيضاً. في الحالين بنت المقاومة مواقعها في التجاويف والفراغات داخل الدول المتهاوية أو المساحات الملتبسة مثل الأراضي المحتلة. ولم تفتقد المقاومة الجديدة ما حازته سابقاتها من دعم من دول كل منها يغني على ليلاه، وإن تمتعت باستقلال نسبي أكثر.
وتبقى هذه كما كانت في السابق معضلة المقاومة التي تحتاج إلى مساحة في دولة فاشلة أو متهاوية تعشش في فراغاتها، ولكنها في نفس الوقت تعتمد على وجود ودعم منظومة من الدول تستخدمها أداة في سياستها الخارجية. ولكن المقاومة الإسلامية لها معضلة إضافية، حيث أنها قدمت نفسها كمقاومة متخصصة، بمعنى أن المقاومة هي غايتها ومبرر وجودها ونشاطها الأساسي. فهي في هذا تختلف عن حركات التحرير السابقة، بما فيها منظمة التحرير، التي كانت تمتلك أجندة واقعية لوراثة الوضع الذي تحاربه. أما حركات المقاومة الإسلامية فإنها تفتقد هذا البعد، رغم أنها في لبنان أنشأت دولة داخل الدولة، وفي غزة بنت دويلة، إلا أنها مثل الحركات الإسلامية الأخرى تفتقد الطموح لكي تحل محل الدولة، مما يطرح وطرح سؤال: ما ذا ستفعل المقاومة إذا تم التحرير؟ (وهذا عين السؤال المطروح حالياً في لبنان مع ارتفاع الأصوات الداعية إلى نزع سلاح المقاومة(.
ورغم أن حركات المقاومة الإسلامية تقدم طرحاً أيديولوجياً متشدداً يدعو إلى مقاومة حتى النهاية ورفض أي مساومة أو حلول وسط. ولكنها من جهة أخرى تدخل في مساومات متداخلة، بعضها تستحق الثناء (مثل دعم حزب الله لشرعية الدولة اللبنانية وسعيه للوفاق مع كل الفرقاء اللبنانيين ومحاولة النأي بنفسه عن الصراعات العربية، ومثل ابتعاد حماس حتى وقت قريب عن الصدام مع الفصائل الأخرى) وبعضها يطرح كثيراً من التساؤلات (مثل علاقة حزب الله مع سورية وإيران، ودخول حماس عملياً في منظومة أوسلو واضطرارها إلى التعامل مع أنظمة كامب دايفيد ووادي عربة). ولكن بنفس القدر فإن هذه الحركات تعتمد في وجودها وفاعليتها على هذه المساومة. فحزب الله ما كان ليكون شيئاً مذكوراً لولا الدعم السوري، وحماس ما كانت لتكسب الانتخابات لو لم تدخل لعبة أوسلو، وما كانت لتكون فاعلة لو كانت في صدام مباشر مع مصر.
والأهم من ذلك كله 'المقاومة' ما كان ينبغي لها أن توجد أصلاً لولا تخاذل وعجز الأنظمة، مما يعني أن الأنظمة لو تحركت كما هو مطوب منها لما كان هناك داعٍ للمقاومة أصلاً. ومن جهة أخرى فإن المقاومة تتحول إلى ورقة توت تستر عورة الأنظمة المتخاذلة وشعوبها المكبلة العاجزة. وها هي بعض الأنظمة تدعي النصر لمجرد أن أهل غزة لم يفنوا عن بكرة أبيهم! لكل هذا فإن المقاومة رغم شرف غايتها وما حققته من إنجازات، إلا أنها لا تجسد فقط العجز العربي، بل تساعد في استمراره بخلق أوهام خادعة حول انتصارات وتقدم، وتسمح لبعض الأنظمة القمعية الفاسدة الفاشلة بأن تفخر بإنجازات كاذبة تتستر خلفها.