عندما يسمع اي كان خطابا للرئيس الأمريكي أوباما قد يخيل له للحظة بأن الرجل فعلا حسن النية تقوده رؤية مخلصة لعالم ديمقراطي حر خال من القهر والاستعباد ومما يعكس ذلك هو تلك النبرة الصادقة وذلك الحس الدرامي المرهف والكاريزما التي لا شك في وجودها عند الرجل. ولا نستطيع كذلك أن نغيب فعل اللون الذي يحمل في طياته الى المتلقي في العالم الثالث شعورا نفسيا بالتناغم مع تطلعاته والتفهم لمعاناته. وأضف الى ذلك الاسم الذي ينضح بالعروبة والاسلام والعالمثالثية.
ولكن هنا لا بد لنا من الذهاب أبعد من المظهر والأسم ومن كلمات سيد واشنطن المنمقة والمعسولة والوقوف أمام بعض المغالطات الأساسية في مضمون الافكار التي يحملها خاصة في ملف السياسة الخارجية.
أولا: الربط بين التنمية ومحاربة الارهاب :
ان هذا الربط الذي يبدو للوهلة الأولى طرحا تقدميا يحدد الاطار الاجتماعي لنشوء نقمة الناس في العالم الثالث ضد دول المركز الرأسمالي هو في الحقيقة ربط منتقص وانتهازي. منتقص لأن التنمية وحدها لا تكفي فالارهاب السياسي أو المسيس في العالم قد ينبع أيضا من اشكالية لا اقتصادية أو يغلب عليها عامل لا اقتصادي مثل القضية الفلسطينية مثلا وقضايا الاحتلال والشعوب لن ترضى بالأستكانة اذا ما أطعمت وأشبعت ورفهت. ان الميل الماركسي والرأسمالي على حد سواء لفهم الكون فهما ماديا بحتا يغيب هذه العوامل ويدفع باتجاه أخطاء تحليلية مميتة. والمفاجئ هنا هو أن أوباما صاحب الميول الروحانية يرتكب هذا الخطأ في التحليل وهذا اذا ما سلمنا جدلا بحسن نيته وقصده لما يقول. ان حركات التحرر الوطني وحركات مناهضة الامبريالية التي اتخذت الكفاح المسلح نهجا لها لا تحارب من أجل لقمة العيش ولا تجند من اجل لقمة العيش. كما أن خلفيات منفذي هجمات ايلول (سبتمبر) الاقتصادية والاجتماعية مثلا لا تتوافق مع صورة الفقير المعدم الحاقد طبقيا والذي كان لقمة سائغة لمن جنده نظرا لبساطته ويأسه. كان من الأصح القول عوضا عن هذا التعميم التبسيطي أن التنمية قد تساعد في لجم الصراعات وتشجع على الحوار بسبب أن الكل يكون عنده ما يخسره ولكن لنقلب المنظار قليلا، هل تساعد التنمية في الولايات المتحدة على لجم العنف الأمريكي؟ أو ليست الولايات المتحدة أكثر الدول استخداما للعنف والعسكر؟ أو هل ساعدت التنمية الاقتصادية على تخفيف النزعة التوسعية العدوانية للكيان الصهيوني؟ ألم تكن التنمية الاقتصادية دافعا على العدوان بالنسبة للدول الاستعمارية طوال عقود؟
من ناحية أخرى طرح أوباما انتهازي لأنه لو كان صادقا لساهم في شن حرب ضروس على التفاوت التنموي الاقتصادي في العالم وهو القادر من موقع أكبر قوة اقتصادية عالمية على ذلك. ولكن الواقع غير هذا فالسياسة الأمريكية على المستوى الاقتصادي سياسة محافظة زراعيا بينما القطاع الزراعي هو المجال الذي يجب أن يفتح للمنافسة العادلة لكونه القطـــــاع الانــــتاجي الأول في العالم الثالث اضافة الى قطاع المواد الأولية ومن ناحية أخرى تنتــــهج أمريكا ســــياسة هجومية شرسة صناعيا لأن الأمر عندها يتعلق بالتصدير وغالــــبا للدول الفقيرة وهنا مصلحة الدول الفقيرة هي عكس ذلك لأنها تحتاج لحماية صناعاتها الوطنية الناشئة. فكيف نصدق أوباما وهو يغلق الحدود في وجه صادرات الدول الفقيرة ويغرق اسواقها بصادراته فارضا عليها ما يسميه الانفتاح الاقتصادي الذي غالبا ما يعني فتح اسواقها من دون قيود وحرمان صناعاتها الوطنية الناشئة من الحماية التي تحتاجها لكي تنمو.
الديمقراطية
ثانيا: عندما يتحدث أوباما عن الديمقراطية نكبر ونهلل لسماع مايقول من حيث المضمون فهو يدعو لما ندعو اليه من رفع للتسلط واطلاق لارادة الشعوب وسيادتها وحتى أنه يعترف بخصوصيات الشعوب وبالتالي بخصوصية تجاربها الديمقراطية. ولكنه يقف قبل أن يقترب حتى من انتقاد حلفائه بينما ينهال نقدا وتهجما على أعدائه. ففي خضم النبرة الحازمة التي يتحدث بها الرجل عن انتهاكات حقوق الانسان وتجاوزات الأنظمة للقوانين والأعراف الدولية في بلاد عديدة، لم ينتقد بكلمة واحدة المجزرة الصهيونية الأخيرة في غزة لا بل اندفع مبررا للصهاينة جريمتهم قائلا أنه لو تساقطت الصواريخ على منزله وهددت حياة بناته لكان فعل كل شيء لايقافها. والغريب هو أنه لا يقول هذا في غرض تبريره مقاومة الشعب الفلسطيني للمجزرة المستمرة بحقه منذ ستين عاما والتي قتلت الأبناء والبنات واستلبت الأرض وما عليها وانما يقول ذلك مبررا استمرار الجريمة ضد الناس الفقراء أصحاب الأرض الأصليين وبناتهم وأبنائهم وادانة لفعلهم كل ما يستطيعون فعله لمواجهتها.
و قد يقول قائل أن هذا أمر طبيعي فالكل منحاز لأصدقائه ويرى القشة التي في عين الاخر ولا يرى الخشبة في عينه، ولكن أوباما يدعي أنه قائد تقوده رؤية كونية صادقة لا تعرف ممايزة بين صديق وعدو الا من منطلق انسجام هذا وذاك مع الطرح الفكري الحر والديمقراطي. أوباما يدعي بأن فرزالقوى يتم على هذا الأساس ومن هذا المنطلق وهو الداعي الأول لهذا الفرز. وهو القادم من خلفية صراع من أجل الحقوق المدنية عليه أن يدرك ارتباط الديمقراطية بالمساواة داخليا وبالتضامن الدولي والقانون الدولي خارجيا.
ولكنه يتكلم وكأن الديمقراطية لا بعد دولي لها ولا رديف لها في العلاقات بين الدول والشعوب وكأنها مجرد آلية من دون بعد اجتماعي. فديمقراطية عنصرية بالنسبة للسيد أوباما لا غبار عليها وهكذا تكون حتى حكومة الفصل الغابرة في جنوب افريقيا ديمقراطية فهي نظمت انتخابات نزيهة لمواطنيها البيض ولم تميز بين أبيض وأبيض كما لا تميز 'اسرائيل' بين يهودي ويهودي اذا ما تغافلنا عن ما يدعيه اليهود السفرديم الشرقيين من تمييز على الأقل.
وعندما يتغنى أوباما بشجاعة الشعب العراقي في الانتخابات وأخذه للمخاطر من أجل ان يدلي بصوته ويختار حكامه، وهو أمر قد نفهمه رغم معارضتنا للمضمون السياسي والجيوسياسي لهذه الانتخابات لكونها تتم تحت الاحتلال وبالتالي فانها باطلة في رأينا، ينسى ذلك الديمقراطي التغني بشجاعة الشعب الفلسطيني وهو يدلي بصوته ويرفض الاعتراف بنتيجة ذلك التصويت. لا بل يفشل أوباما الداعي للحوار في مد جسور الحوار الى الممثلين الشرعيين المنتخبين للشعب الفلسطيني المحاصر وذلك بتهمة المقاومة وعدم الاعتراف بدولة الأحتلال وكأن المحتل والمقتول والملغى عليه أن يعترف بالمحتل والقاتل والملغي، انه فعلا العالم رأسا على عقب. فاذا المهم ليس الانتخابات بالنسبة لأوباما ولا الشرعية الديمقراطية وانما المهم هو النتيجة والعم سام لم يكن يوما سعيدا عندما يفوز معارضوه بثقة الشعب وتشيلي ونيكاراغوا تشهدان على ذلك.
السلام
ثالثا: طرح أوباما للسلام في الشرق الأوسط على أساس دولتين مستقلتين لا يمكننا فهمه الا في اطار الثوابت التي أعلنها خلال خطابه أمام مجموعة ايباك الصهيونية وسط حملته الانتخابية. وهي أولا الغاء حق عودة اللاجئين وثانيا عدم عودة الأراض المحتلة عام 1967 كاملة بل من دون القدس وأجزاء من الضفة الغربية وثالثا سيادة منتقصة للدولة الفلسطينية. ان طرح السلام هذا هو طرح للتصفية، تصفية القضية الفلسطينية. وبما أن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال أم القضايا العربية ومصدر الغضب العربي سيبقى الانحياز الأمريكي لاسرائيل العنصرية الاستعمارية التوسعية مصدر العداء العربي لأمريكا ولو صدق أوباما في كل ما يقول وهو أبعد من أن يصدق ولو بجزء منه.
نعم لقد كان هنالك بعض الأمل المتسرب لدى الجميع عند انتخاب أوباما وهو نابع من تلك المؤثرات الصوتية للرجل وكل البعد الهوليوودي لقصته ولشخصيته وأسلوبه. ولكن في نهاية الأمر الرجل هو ابن المؤسسة الأمريكية الحاكمة ولم يصل للحكم الا لأنه ابنها ولأنه التزم بقواعد اللعبة. وكل محاولات التغيير من الداخل غالبا ما تتحول الى قصص درامية للفشل وتنتج أمساخا من المغيرين السابقين الذين تغيروا هم بدل أن يغيروا شيئا وتحولوا الى مكرسين للأمر الواقع وللستاتيكو. ألنسق يغير من يدخله ومن النادر جدا أن يغير أحد النسق.
بعد بوش المتلعثم لا شك بأن بلاغة أوباما تغيير ملموس ولكن هذا التغيير يبقى لفظيا أكثر منه فعليا. أما التغيير الفعلي فلم يأت به أوباما وانما فرضته معادلات قاسية بدأت عندما حولت المقاومة العراق الى مستنقع للمحتل أستهلكه لوجستيا واقتصاديا وما زال وعندما انتقلت العدوى الى أفغانستان بعد فترة هدوء خادعة وعندما بدأت الماكينة الاقتصادية الأمريكية تظهر معالم الترهل والعجز نتيجة لما يمكننا تسميته بالانفلاش الأمبراطوري الذي يكون متبوعا دوما اما بانكماش أو بانهيار للأمبراطورية. أوباما اذا يعبر عن تغيير مفروض على أمريكا وهو عنوان هذا التغيير وليس أداته، انه الدخان وليس النار.
أما ما يبقــــى ملكـــه وما هو فعلا ميزته فهو الكلام والخطابة، ففي الماضي كان يقال أن العرب أمة قوالة في دلالة على بلاغة القول مع انعدام الفعل وها هي أمريكا تسرق منا حتى هذه الميزة لعل ما أصابنا جراء مرض الخطابة والبلادة يصيبها فنرتاح.
' كاتب من لبنان