لست أدري هل ينبغي على أن أشكر الأخ الصديق الدكتور خير الدين حسيب، رئيس مركز دراسات الوحدة العربية، أم ألومه على إصراره على إجباري أكثر من مرة ليس فقط للتأمل في ما ينتظر وطننا السودان من مصير تكتنفه المخاطر، بل أيضاً لعرض هذه التأملات على جمهور من المستمعين ثم تسجيلها كتابة ونشرها بعد ذلك. كانت المرة الأولى حين أجبت دعوته في خريف عام 2000 لإلقاء محاضرة بعنوان 'السودان إلى أين؟'، نشرت فيما بعد في دورية دراسات المستقبل العربي ثم في كتاب أصدره المركز بعنوان 'العرب وجوارهم: إلى أين؟'
ثم جاءت المرة الثانية حين طلب مني أن أساهم في العدد الأول لدورية 'شؤون عربية معاصرة' التي بدأت الصدور في مطلع العام الماضي. هذه المرة كنت أنا الذي اخترت العودة إلى موضوع مستقبل السودان، حيث كانت متغيرات كثيرة حدثت منذ كتابة التحليل المذكور أعلاه، ولم يكن أقلها شأناً عقد اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا واندلاع حرب دارفور.
وقد تناولت في ذلك التحليل سيناريوهات التغيير القادم في السودان في ظل تعثر تنفيذ اتفاقية السلام الشامل واستمرار حرب دارفور، حيث لخصت تلك السيناريوهات في أربعة احتمالات رئيسية. أول هذه الاحتمالات كان أن تنجح الحركة الشعبية في خلق التحالف الذي ظلت تحلم به بين الكتل التي تمثل 'الهامش' في الغرب والجنوب والشرق، وتشرع في بناء 'السودان الجديد' كما تتمنى. ويعتبر هذا السيناريو أقل السيناريوهات حظاً في التحقق لصعوبة بناء التحالف المنشود بسبب تباين رؤى الصفوة في الأقاليم المختلفة، وأيضاً بسبب المقاومة المتوقعة من مركبات الدولة من جيش وقوى أمنية وجهاز بيروقراطي. ورغم أن هذا السيناريو لو تحقق سيضمن أن يصوت الجنوب لصالح الوحدة، إلا أنه الأقرب لإثارة حرب أهلية جديدة قد تحول السودان إلى صومال جديد.
في السيناريو الثاني تبني للحركة الشعبية تحالفاً أقل طموحاً يوحد بينها وبين قوى شمالية على غرار التجمع الوطني الديمقراطي الذي تم إعلانه في مطلع التسعينات ولكنه تهاوى في السنوات التالية بسبب خلافات أعضائه. في هذا السيناريو سيكون للحركة الشعبية دور بارز في التحالف الحاكم، وسيعني هذا بدوره أن يصوت الجنوب للوحدة. ولكن هذا السيناريو تعترضه صعوبات تتمثل في المقاومة المتوقعة من أجهزة الدولة القائمة، إضافة إلى استمرار العوامل التي أدت إلى انهيار التجمع الوطني الديمقراطي حتى قبل وصوله إلى الحكم.
السيناريو الثالث يتحقق إذا قام تحالف استراتيجي بين الحركة الشعبية وشريكها في الحكم المؤتمر الوطني كامتداد للوضع القائم ولكن بتراض أكثر. وهذا هو السيناريو المفضل للمؤتمر الوطني، ولكن الحركة الشعبية لا تفضله إلا إذا تم إضعافها، كما أنه سيواجه معارضة قوية من قوى المعارضة في الشمال والجنوب، ولن يكون المجتمع الدولي متحمساً له. إلا أن تحقق هذا السيناريو سيرجح بدوره أن يصوت الجنوب للوحدة، دون أن يجعل هذا الاحتمال مؤكداً.
أما السيناريو الرابع والأخير فيتمثل في قيام المؤتمر الوطني ببناء تحالف يضم القوى الشمالية مع بعض قوى المعارضة في الجنوب، وهو سيناريو يعيد إلى الساحة ترتيبات ما تسميه الحركة الشعبية 'السودان القديم'، أي الوضع الذي كان سائداً منذ الستينات ويعكس هيمنة القوى الشمالية التقليدية على مقاليد الأمور في البلاد. هذا السيناريو هو أكثر السيناريوهات حظاً في التحقق (ربما بنفس الدرجة مع السيناريو الثالث)، كما أنه سيضمن بعض الاستقرار للبلاد، ولكنه سيؤدي بالقطع إلى انفصال الجنوب. وقد أشرنا في المقالة إلى احتمالات أخرى، تعتمد على كيفية معالجة أزمة دارفور وسلوك القوى الدولية والإقليمية. فإذا تمت معالجة أزمة دارفور بحكمة فإن هذا قد يفتح الباب إلى احتمالات جديدة تعزز السلام والاستقرار. أما إذا تعثرت حلول أزمة دارفور فإن هذا قد يفتح الباب أمام تدخلات أجنبية قد تصل حد الاحتلال الجزئي وربما الغزو الخارجي، كما أنه قد يؤدي إلى توسع الحرب في دارفور لتشمل تشاد.
من جهة أخرى فإن التدخلات الأجنبية، وخطر تقديم بعض رموز الحكومة للمحاكمة دولياً قد يدفع بالحكومة إلى اتخاذ خطوات متشددة للدفاع عن نفسها، وهو ما ستكون له عواقبه، وليس أقلها انفصال الجنوب. وهذا بدوره قد يؤدي إلى صراع جديد حول النفط لن تقف القوى الإقليمية مكتوفة الأيدي تجاهه. من جهة أخرى فإن الصراع الناتج قد يؤدي إلى تفكك السودان مما سيهدد بدوره سلام واستقرار الدول المجاورة.
وفي ختام المقالة تم طرح آراء يعتقد الكاتب أنه لو أخذ بها فقد يتم تجنب أسوأ الاحتمالات وضمان استقرار السودان ووحدته. ويتحقق هذا الأمر إذا تخلت القوتان الأبرز على الساحة (الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني) عن طموحاتهما لفرض برامجهما بصورة أحادية، وتم التوافق مع القوى الأخرى على بناء نظام ديمقراطي لا مركزي يضمن لكل القوى مكانها في خارطة السياسة، ويقلص صلاحيات الحكومة المركزية لصالح الأقاليم ومؤسسات الدولة المستقلة (مثل البيروقراطية والقضاء والجامعات ونحوها) ومنظمات المجتمع المدني.
لم يكد يجف حبر هذا التحليل حتى صدقت بعض التوقعات التي وردت فيه، بدءاً من توسع الحرب في دارفور باتجاه تشاد في آذار (مارس) وتم توجيه الاتهام إلى رئيس الجمهورية في تموز (يوليو)، وتصرف الحكومة تجاه هذا الاتهام. ولعل هذا التطور الأخير، والبعد الخارجي لأزمة دارفور عموماً، سيلعب الدور الحاسم في تحديد المسار السياسي في السودان. ذلك أن الدور الخارجي قد عقد الأزمة إلى حد كبير، وسحب الأوراق من أيدي القوى الداخلية والخارجية معاً.
وقد واجهت جهود احتواء الأزمة تحديات كبيرة في الداخل رغم وجود عدد محدود من اللاعبين الفاعلين على الساحة السياسية السودانية، من أبرزهم المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وقوى المعارضة المختلفة وحركات دارفور، وذلك بسبب تضارب وتقاطع أجندات هؤلاء اللاعبين. فالحركة الشعبية هي من جهة شريك في الحكم، ولكنها من جهة أخرى حليف لبعض حركات دارفور ولقوى سياسية أخرى، إضافة إلى تحالفاتها الإقليمية وعلاقتها الدولية، خاصة بواشنطن. وهناك تعقيدات تشرذم وتنافر حركات دارفور، حتى خارج نطاق الميليشيات الموالية للحكومة والمستبعدة تماماً من عملية السلام حالياً. وإذا أضفنا إلى هذا الخليط المعارضة الشمالية، المتهم بعضها بممالأة حركات التمرد في دارفور، في حين يسعى بعضها الآخر للتحالف مع المؤتمر الوطني أو الحركة الشعبية، ندرك الصعوبات والتعقيدات التي تواجه أي محاولة جادة للتوصل إلى حل سلمي للأزمة. ثم حدث ولا حرج عن التعقيدات الإقليمية المتمثلة في تداخل صراعات دارفور مع الصراعات السياسية في تشاد أو حتى افريقيا الوسطى.
ولكن العامل الأهم في الوضع الحالي هو البعد الدولي، وخاصة البعد المتعلق بمحكمة الجنايات الدولية. وإذا كانت الدعاية الحكومية ترى في المحكمة أداة في يد بعض الفوى الدولية، وهو اتهام لا يخلو من صحة، إلا أن المشكلة أعقد من ذلك، لان تلك القوى تملك إطلاق إجراءات المحكمة ولكنها لا تملك إيقافها أو التحكم فيها بعد انطلاقها إلا بقدر محدود. فهذا النوع من المحاكم، كما تدل التجربة من محاكم يوغسلافيا ورواندا، تظل تعمل لعقود حتى بعد انتهاء الأزمة، مع فارق مهم، هو أن تلك المحاكم تم تشكيلها بعد انتهاء الأزمة، ولكن المحكمة الحالية تعمل أثناء الأزمة، مما جعلها لاعباً من بين لاعبيها. وهذا بدوره يشل من قدرة كافة الأطراف، بما فيها الأطراف الدولية، على التحكم في مسار الأزمة. المحكمة في هذا الخصوص تختلف عن أدوات السياسة الخارجية المعروفة (من تحرك دبلوماسي أو مقاطعة أو حصار أو مساعدات او تهديدات أو حتى التدخل العسكري) في أن صانع القرار يظل قادراً على التحكم في هذه الأدوات واستخدامها كعصا أو جزرة لتحقيق أهداف سياسته. أما المحكمة فإنها تكبل يد صانع القرار، كما نرى حالياً في مواقف الدول الغربية التي تواجه معضلة التوفيق بين تأييدها للمحكمة وهدفها المعلن في تحقيق السلام في دارفور. ذلك أن هدف تحقيق السلام يعني تشجيع التفاوض بين الحكومة وحركات التمرد. ولكن في حال صدور قرار من المحكمة يتهم الحكومة السودانية بارتكاب الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، فإنه يصبح من الصعب على الدول الكبرى والمنظمات الدولية الضغط على الحركات للتفاوض مع حكومة متهمة دولياً، كما أن هذه الحركات قد تتباطأ في الاستجابة لدعوات التفاوض أملاً في أن تضعف الضغوط الدولية الحكومة أو تسرع سقوطها. وقد شهدنا مثل هذا الوضع في حرب الجنوب حين كانت الولايات المتحدة تتهم الحكومة السودانية بدعم الإرهاب وتهديد الاستقرار في المنطقة، بينما كانت تدعو في نفس الوقت إلى استمرار مفاوضات الإيغاد. في ذلك الوقت كان الهدف غير المعلن للسياسة الأمريكية هو إسقاط النظام، وكانت المفاوضات تستخدم كجزء من الضغط لتحقيق هذا الهدف، وذلك لإثبات تعنت الحكومة وعدم قبولها بالسلام، مما كان يبرر تقديم الدعم لدول الجوار للضغط عسكرياً على الحكومة إما مباشرة أو عبر دعم حركات التمرد المختلفة. ولم يتم التخلص من هذا التناقض إلا عندما قررت الإدارة الأمريكية عدم جدوى وعدم ضرورة العمل على إسقاط النظام فألقت بثقلها خلف مفاوضات السلام وسعت لإنجاحها.
أما في الوضع الحالي فإن الخيارات محدودة أمام صناع القرار في واشنطن وغيرها، لأن العمل على تغيير النظام بالقوة ليس وارداً، ومثل ذلك التدخل العسكري المباشر في دارفور. وحتى خيار الحصار والضغط الاقتصادي يواجه صعوبات أهمها حرص المجتمع الدولي على إنجاح اتفاق نيفاشا. وعليه فإن موقف الحركة الشعبية يكون حاسماً هنا. فلو اختارت الحركة خيار الانفصال المبكر، فإن هذا سيسهل من مهمة من يريدون استهداف السودان الشمالي بعقوبات اقتصادية أو غيرها.
من جهة أخرى فإن صدور قرار الاتهام من المحكمة وتأييد المجتمع الدولي له قد يدعم الخيار العسكري بالنسبة للحكومة التي قد تنتهز الفرصة للجوء لحل عسكري مجدداً باعتبار أنها في حل من أي التزام سلمي في ظل التطورات التي تلي القرار. ولا يعني هذا أن الخيار العسكري سيأتي بنتيجة، لأن نتيجته لن تكون حاسمة تماماً كنتيجة الحصار والمقاطعة والضغط العسكري الأجنبي على الحكومة. فقد جرب الطرفان هذه الوسائل من قبل ولم تأت بنتيجة. الذي يعنيه هذا أن السودان سيمر بفترة صعبة يتصاعد فيها التوتر داخلياً وخارجياً قبل أن تقتنع كل الأطراف بأنه لا خيار سوى خيار التفاوض والتنازلات المتبادلة، ولكن بعد أن يكون المواطنون قد دفعوا ثمناً باهظاً لرحلة التعلم هذه.
ولكن هل من وسيلة لاختصار هذا الطريق وتجنب تكرار المعاناة التي سببتها تجارب السودان القريبة؟ هذا ما سنحاول استقصاءه في تناول لاحق إن شاء الله.
' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
qpt92