التغيير السياسي يفرض نفسه بعد ملحمة غزة
سعيد الشهابي
27/01/2009
لقد كان رحيل بوش عن الساحة السياسية حدثا انتظره سكان هذا الكوكب منذ ان اتضح انه من الاسباب الرئيسية لعدد من المشاكل التي تعصف بهذا الكوكب، الاقتصادية والامنية والسياسية والحضارية. فلم تذرف دمعة على مغادرته المسرح، بل انشرحت اسارير الناس لاستبداله برئيس من سحنة اخرى، ولون مختلف، وطرح يتوقع ان يكون مغايرا.
الأمر المؤكد ان الرئيس الامريكي الجديد طلب من سلفه اخماد النيران الصهيونية في غزة قبل مغادرته البيت الابيض، فكان ذلك. والواضح ان هناك أخطاء كثيرة في الحسابات العسكرية والتقديرات الزمنية للحرب التي شنت ضد الفلسطينيين على مدى 23 يوما، دفعت كلا من بوش واولمرت الى التعجيل بوقفها قبل ان تحدث ثورة ضد الطرفين بعد ان اتضح ان الصهاينة لم يلتزموا بشيء من قوانين الحرب ومواثيق جنيف ومعايير حقوق الانسان. الصهاينة كانوا اكثر الاطراف معرفة بما أحدثوه من دمار بشري ومادي في غزة، وهو الامر الذي تجلى بوضوح بعد وقف الحرب. وقد سجل الامين العام للامم المتحدة موقفا نبيلا بزيارته التاريخية للمناطق المنكوبة، بعد ساعات من وقف اطلاق النار، ليرى بنفسه قنابل الفوسفور الابيض ما تزال تشتعل في الشوارع، وتحدث المزيد من الاضرار. رأى بان كي مون، بعينيه، ما آلت اليه مراكز الاونروا من دمار، وما انطوت عليه من شهادات تدين الصهاينة الغاصبين بارتكاب جرائم ضد الانسانية. بينما كان الزعماء العرب مشغولين بالمهاترات والمزايدات، والبحث عن صيغ لحماية سمعة 'اسرائيل' ودورها في المنطقة. لقد هالهم ان تخرج المقاومة الفلسطينية مرفوعة الرأس، تستعلي على الجراح، وتصر على المبادئ، وتؤكد على حق المقاومة وهدف التحرير، وكلها قيم اصبحت، في عصر التحالف المصري ـ السعودي، مرفوضة. فما اوسع البون بين طرف يرى الحياة والشرف في الصمود مهما كانت التضحيات، وآخر يبحث عن العيش الذليل حتى لو اقتضى الاستسلام والتخلي عن الارض والحقوق والكرامة. ولذلك فمهما قيل عن نتائج الحرب الصهيونية المدمرة، فسوف يظل الصراع بين المنظومتين قائما في المستقبل المنظور. فقد اصبحت المقاومة الفلسطينية متمثلة بحركة حماس ومعها الجهاد الاسلامي، رقما صعبا في الحسابات السياسية، ولن يكون ممكنا التوصل لأية صيغة تفاوضية مع الكيان الصهيوني بدون موافقتها.
لو انتظرت حركة حماس مؤتمرات القمة العربية لما حققت شيئا، ولوجدت نفسها مسحوقة تماما على ايدي الصهاينة. ولكنها آثرت ان تدافع عن نفسها وشعبها وارضها بما لديها من موقف مشروع، وأدوات متواضعة للدفاع عن هدف مقدس. كان رهانا خطيرا، كسبته في نهاية المطاف، وراح العدو يجر أذيال الهزيمة، وينسحب على شروط المقاومة، بعد ان ادرك عبثية حربه العدوانية التي فشلت في تحقيق ما رسمه مخططوها من اهداف. اجتمعت الحكومات العربية في الوقت الضائع، بعد ان اصبح واضحا ان المقاومة سوف تنتصر، وان العدو سوف يهزم تماما كما هزم في 2006، بعد ان فشلت في عقد اجتماع واحد منذ بداية العدوان لدعم المقاومة والدفاع عن الشعب الفلسطيني. ومع ذلك لم تستطع تلك الحكومات ان تخرج من تلك الاجتماعات بمواقف واضحة وسياسات متفق عليها. وذلك امر طبيعي. ففي الوقت الذي بذلت فيه السعودية ومصر كافة جهودهما لافشال قمة الدوحة، لأسبابهما الخاصة، كان العاهل السعودي يدعو لـ 'قمة' طارئة لمجلس التعاون بدون هدف واضح. وعندما عقدت قمة الكويت 'الاقتصادية' خرجت بفشل ذريع بسبب الخلافات بين الزعماء الذين حضروها. كان واضحا ان الخلاف لن يكون محدودا، وان كلمات 'التراضي' لن تكفي لرأب الصدع الذي خلفه التراجع والتقهقر امام العدوان الصهيوني المدعوم من قبل الولايات المتحدة الامريكية. ويعكس البيان الختامي الذي صدر عن قمة الكويت الاقتصادية عدم امكان التوافق ازاء القضية الاساس التي تعتقدها المقاومة الفلسطينية واللبنانية 'أم القضايا' وهي تحرير التراب وانهاء الاحتلال. هذا الهدف ليس جديدا على المقاومة، فقد طرحته بدون خوف او وجل، ولكنه جديد على اسماع الزعماء الذين يملكون اموال قارون، ترسانات اسلحة عملاقة، ووسائل اعلامية تصم الآذان. لكن ذلك كله لم يوفر لهم القدرة على النهوض بنفوسهم وعقولهم الى مستوى التحدي. ويكاد الواحد منهم يتفجر غيظا وهو يرى كيف استطاع المقاومون الصمود امام العدوان الاسرائيلي بدون استسلام، بينما كان الصهاينة قادرين على حسم كل الحروب التي شنوها في السابق مع الدول العربية بقيادة تلك الانظمة في غضون ايام قليلة. المشكلة اذن ليس في السلاح والعتاد والمال، بل في الرجال وعزائمهم ومدى ايمانهم بالهدف، الامر الذي غاب عن المشاريع العربية منذ ان اعلنوا استسلامهم للمشروع الصهيوني وقرروا التطبيع معه.