أفصحت المملكة العربية السعودية مؤخرا، عن جانب من نواياها، وطلبت من الدول العربية، عقد قمة مصغرة في الرياض باسرع وقت ممكن، الغرض من القمة هو بحث أوضاع العراق، وما هو متوقع في حال إنسحاب القوات الامريكية من هناك، أسباب الاستعجال المفاجئ في تقديم الطلب، ربما تعود لحسابات خاصة، يحتمل أن يكون بعضها متصلا، بنتائج ومجريات الانتخابات المحلية، التي جرت في العراق مؤخرا،
مع الدلالات التي تمخضت عنها، والآفاق التي يمكن أن تفتحها، أمام عودة اللحمة الى المجتمع العراقي، مع كل الاستحقاقات اللاحقة التي ترتبها عودة تلك اللحمة، سواء لجهة نتائج الانسحاب الامريكي المتوقع وانعكاساته، أو على صعيد عودة الوزن العراقي الوطني، وما يتبع ذلك من تطورات، في مجال طبيعة الدولة والنظام، مع احتمالات تجاوز، لا بل إنهاء المشروع الامريكي الاحتلالي، وصيغة الممثلة، بتكريس الطائفية والمحاصصة، والفيدراليات المفتعلة. ثمة مؤشرات أخرى، من المحتمل أن تكون ساهمت أيضا، في دفع الماكنة السعودية للاستعجال. فمن المعلوم أن حكومة المالكي، تبذل في الآونة الاخيرة، جهودا خاصة، في سبيل إعادة الضباط الموجودين خارج الى العراق، بعد تسوية أوضاعهم، وقد شكلت لهذا الغرض، لجان إتصال، وعقدت جملة من اللقاءات، في سورية واليمن، وغيرها من العواصم العربية، التي يوجد فيها ضباط عراقيون باعداد كبيرة، كما رصدت مبالغ ضخمة لهذا الغرض، وهنالك ما يوحي بان عملا جديا يجري على هذا الصعيد. ولا شيء يمنع من حصول تطورات سياسية أخرى مواكبة، تعزز هذا الاتجاه .
تتعاكس مثل هذه التطورات بقوة، مع نوايا مبيتة. والتي يجري التداول بشأنها منذ فترة، فالمملكة العربية السعودية، وبعض دويلات الخليج، تسعى منذ فترة، الى بلورة مشروع، يقولون انه لملء الفراغ، وإستباق أية تطورات على صعيد الانسحاب الامريكي المتوقع من العراق، وهم يستندون في خطتهم أصلا، على مجموعات الضباط العراقيين الموجودين في الخارج، وبالاخص أصحاب الرتب العالية منهم، والخطة المقترحة تبدأ، كما تشير معلومات تسربت من بعض المشاركين في التحضيرات، باعلان جمع من هؤلاء الضباط، عن إقامة صيغة من صيغ حكومة منفى. تبدأ باقتراح شخصية 'عربية عراقية' ليكون بمثابة مرشح لرئاسة الجمهورية. ويقال ان دولا أوروبية أبلغت بهذا التوجه، وانها لم تمانع. في حين يفترض بالامريكيين، أنهم قد أبلغوا قبل غيرهم، بعد عرض الدوافع، ومن ذلك، التأكيد على أن الانسحاب الامريكي من العراق، سيعني حكما، سيطرة إيران التامة على بلاد الرافدين، مع ما يعنيه ذلك من إتساع نفوذها في العالم العربي، والشرق الاوسط. خاصة مع ما يتداول من ظروف خطيرة قادمة، سواء في المملكة العربية السعودية أو مصر، فمرض ولي العهد السعودي العضال، وتردي الاوضاع واحتقانها غير المسبوق في مصر، أمور تزيد من الخطر، ومن تضخيم احتمالات الاختراق الايراني للمملكة والمنطقة عبر العراق، لا بل وتهدد قواعد الامن الاسرائيلي عبر البحر الاحمر، وصولا الى سيناء.
وفي مثل هذه الحالة، لن يتردد قادة أوروبا في قبول سيناريو للعراق، يحولهم الى شركاء كاملي الشراكة لامريكا، في الشرق الاوسط، كما هي حالتهم في افغانستان. وكما يبدو، فان العقبات الجدية أمام سيناريو من هذا النوع، موجودة في المنطقة نفسها، فقوى الإعتراض أو الممانعة، لها أثر بالغ في تحويل مثل هذا السيناريو إلى واقع، أو عرقلته ومنعه من التحقق، وسورية على سبيل المثال، جرى مؤخرا التحادث معها، من قبل المملكة العربية السعودية. وهو تصرف تعود دوافعه، إلى نفس مبررات العجالة الطارئة الآن، على التحرك السعودي نحو فتح ملف العراق، والإحتمالات المتوقعة فيه .
من الصعب أن نتوصل إلى تقدير متناسب تماما مع أبعاد اللحظة الراهنة، من دون أن نخرج من نتف التصورات المتداولة منذ سنين، عن أسس ومحركات النظام العربي، والشرق أوسطي، هذا إذا كان هنالك من مساع جادة، تحاول الوصول لمثل هذا التصور، مما يفسح المجال دائما، للانشاء والايديولوجيا، او العواطف، ويجعلها طاغية على القراءات المواكبة لخلفيات الاحداث، وهنالك إجحافات هائلة، تثير الفوضى في تقدير أوزان القوى، والمحركات الأساسية في المنطقة. وتزيل لصالح تقديرات كمية، ووصفية، الحقائق الجوهرية، والديناميات الثابتة، والتي اليها يعود المحفز الدائم والرئيسي في عموم المنطقة، ويحدد إستراتيجياتها. ومن الغريب أن تكون الابحاث قد تجنبت الاشارة حتى اليوم، الى الدورالذي يحتله العراق، كبؤرة تغيير على مستوى الإقليم، فاهمل بهذا جانبا لا ينكر من خصوصية دور الحالة العراقية، والكيان العراقي، باعتباره الموضع الوحيد الصاعد من قاع الخراب وحافة الموت. إن كيانات المنطقة الأخرى، لم تعرف الانهيار المروع والانحدار المهول، كما قد عرفه المركز الامبراطوري العربي الاسلامي الاكبر، هذا الموضع الذي عنده تمركزت الفتوح الاسلامية، وتحولت الى سلطة إمبراطورية كبرى، إستمرت لقرابة خمسة قرون من الذروة، الأمر الذي لم يستطع أي موضع آخر الاضطلاع به، فوصل الانجاز هنا بالذات إلى قمته، وبلغت الدورة الحضارية الثانية في المنطقة، والمرافقة لا بل الناجمة، عن دفع الاسلام الجزيري، ذروة لا تضاهى .
كل الكيانات العربية الأخرى، ساكنة ومن بقايا النظم والتشكيلات، المتخلفة عن الدورة الثانية الاسلامية، وكلها لا تتمتع بديناميات عالية، في حين يركز على ظواهر وخاصيات، ميزت بعضها مثل حساسية الموقع الستراتيجي، خلال ظرف بعينه، أو المساحة، أوالسكان، أو الانسجام المجتمعي، الذي هو في الغالب، هيمنة الدولة على المجتمع. وفي التدقيق تنكشف هذه المواضع، حتى أهمها، عن 'بديل عن ضائع' ما تزال المنطقة تنتظره، وتتطلع للقاء به، العراق هو البلد الوحيد الذي صعد في القرون الثلاثة الماضية، من أعمق نقطة في الهاوية، الى مستوى يضاهي من سبقوه في التعرف على الغرب باكثر من قرن، وكل ذلك بناء على آلياته الذاتية. فالجزء الأعظم من تاريخ العراق، وتشكله الحديث، جرى من دون تأثير الحداثة الغربية. ومع ذلك أطلق العراق أكثر من ريادة حداثية مشهودة. وحضر فكان في الثلاثينات بروسيا العرب، كما كان القوميون يرون. وكان قطب التوازن ومحورا متميزا، ومقابلا متطرفا، لاقصى ثورية عربية، مثلها عبد الناصر في مصر، يحضر العراق من أسفل بقوة ودوي، والمد الاحمر بعد ثورة تموز 1958، وسجل الانتفاضات الكبرى المتوالية قبلها، وكل هذا، لم يكن يلغي ثنائية الحضور المزدوج، من أعلى كما من أسفل، فنوري السعيد وصدام حسين مثلا ذروتين باسم الدولة، مع أن العراق تبدأ فيه الدولة كحصيلة لانطفاء الثورة. وسنة 1920 هي سنة الاثنين معا، كما انها سنة ظهور الكيان العراقي الحديث، مما يشبه العدم.
اليوم يصل تباين الايقاع والديناميات بين هذا الموضع ومحيطه، ذروة كونية، تفوق كليا قدرة الآخرين، أو المتربصين من حوله، على الإستيعاب، أو اللحاق بالظواهرالمتفاعلة في أحشائه، الدولة هنا إنهارت، وهذا حدث إستثنائي، يراه الفكر العربي حتى اليوم عابرا، ويحجم عن إستنطاقه، لأن العالم العربي لا تحكمه رؤية مطابقة للديناميات الحضارية العربية، ولا لايقاع الدورات الحضارية كما وقعت في هذا الجزء من العالم، ومفهوم الممكن الوحيد الاوروبي، طاغ لدرجة تغييب، حتى مجرد الاحتمالات الاخرى، ولو كمتخيل، مع أن مسألة وجود دورة حضارية ثالثة، بعد الدورة الحضارية الاولى، ونشوء الحضارات القديمة. والدورة الثانية، الناجمة عن الثورة الجزيرية الكبرى، مع ظهور الاسلام، يبرر البحث عن صعود دورة ثالثة راهنة، تحتكم لاسرارها وقوانينها، ولايمنعها ضعف تكوينها البنيوي، أو عدم تبلور، أو وضوح مساراتها، من التجسد. فالجزيرة كتكوين، كانت الاضعف والادنى، مقارنة بالعراق ومصر، ومع ذلك حققت قفزة كونية هائلة، ووثبة الافكار العظمى، كانت تعطي دائما، دفعا هائلا، بقدر انسجامها مع الخاصيات، وطبيعة التكوين النفسي واللغوي والاجتماعي التاريخي .
كان العراق يفتقد الى التعبيرعن ذاته، وتلك معضلة إستمرت لعشرات القرون، لكن الثنائية ظلت تتكرر، الابراهيمية التوحيدية الاولى، مقابل نبوخذنصر /قديما / أصناف الافكار، وأرقاها، من التصوف، الى الاسماعيلية، والقرمطية والتشيع، وصنوف التقعيد في اللغة والفكر (اخوان الصفا) في الأسفل، الى هارون الرشيد من أعلى، وصولا الى اليوم، بينما تكاد التحولات الموضوعية الراهنة، توحي بحل هذا التناقض مع إنسداد أفق استمراره، فالدولة انهارت، من دون أفق او إحتمال بديل ثابت، وبلا أي قاعدة باقية، تؤمن إعادة بنائها /موضوع قاعدة الدولة في العراق، يحتاج الى قراءة أوسع لايتيحها المجال / والمجتمع يصطرع مع نفسه، وينقلب بقوة وسرعة، محددا إتجاهات تنم عن ديناميات صاعدة، توحي باحتمال انبثاق التكوين الاسفل، عن مفهوم وطني ورؤية، عن ثورة .
الذين يفكرون الآن بتطوير خطط، وتخيلات تناسب عراقا، يتصارع طائفيا، بينما هم يأملون ببلورة وتحقيق، صيغ ومشاريع تدخلية، سواء عن طريق الجامعة العربية، أو إحضار قوات دولية، سوف يفاجأون تماما، بان مثل هذا الفعل يستثير في العراقي، ردة فعل معاكسة، والمراهنات على أفكار ساذجة، من نوع تلك التي تقول بان قوات يقودها ضباط عراقيون، تدخل لاحقا الى المناطق /السنية/ في الرمادي والفلوجة والموصل، سوف تواجه برفض مطلق وشامل، وستكون على العكس، إحدى المحركات الدافعة بقوة، لإستكمال المهمة الوطنية الراهنة، وحين يصل العراقيون الى مزيد من تبلور رؤيتهم المطابقة ونموذجهم، فان المسعى العربي الإقليمي، سيكون وقتها قد حقق فعلا، ما هو ضروري لمزيد من انحسار النفوذ الحالي لإيران، او تركيا او أية قوة اقليمية، أما الاحتلال الامريكي، فسيتلقى وقتها الضربة الأخيرة، ولا يعود أمام العراقيين الموحدين الناهضين، من عقود الخراب، سوى الوثوب على أصل الكارثة، ومسببها المهزوم عسكريا، وعلى صعيد النموذج والمشروع .
قيل للامريكيين قبل الغزو، أو أنهم إدعوا تصديق، خرافة إستقبال العراقيين لهم بالورود. والنتيجة معروفة. هذا درس، يجب أن يتعلمه الاقربون أيضا، سواء منهم من يواصلون عمليا وعلى الارض، التدخل في الشأن الوطني العراقي، أو من يفكرون بشيء من هذا القبيل، باسم شتى الذرائع والحجج، العراق يصعد وهم يتراجعون، العراق ينهض وهم يتخبطون، ومعضلاتهم وامراضهم لا حل لها، لعل هؤلاء يصدقون، بان العراق أمل تاريخي كبير، لامة نامت لقرون مديدة، وأن الشمس تبزغ هناك، في الموضع الذي فيه غابت، لتعم بعدها الدياجير، يابقايا الظلمة والانهيارالمديد، العراق على طريق آخر.
' كاتب وباحث عراقي مقيم في باريس