صارت الكتابة بعد غزة صعبة. بمقدار ما يزداد الوضع وضوحا، تزداد صعوبة صوغه في كلمات، اذ ان الامور صارت في حيز قول الذي قيل، من دون ان يقدم الواقع السياسي احتمالات جديدة.
ما فعله الاسرائيليون ليس تكرارا لمذابحهم المستمرة منذ ستين عاما فقط، بل تأكيد ان اللغة الوحيدة التي سوف تستخدم مع الفلسطينيين هي لغة الدم. لا شيء آخر سوى القتل الذي يمهد لمزيد من القتل. والمسألة لا علاقة لها بالمزاج الاسرائيلي الذي يميل عشية انتخابات الكنيست يمينا. بل لها علاقة بتصور الاسرائيليين لعلاقتهم بضحيتهم الفلسطينية، وهو تصور عادوا الى بلورته من جديد خلال الانتفاضة الثانية وما تلاها.
الادعاء الأحمق الذي طرحه ايهود باراك عن عدم وجود شريك، انتهى الى تسلم شارون للسلطة، وإلى تحطيم السلطة الفلسطينية، والانسحاب الأحادي من غزة، تمهيدا للاستيلاء على الضفة الغربية.
اي ان اليسار واليمين تناوبا على دفن احتمالات السلام، لأنهما لا يريدانه. السلام بالنسبة لهما كان استراحة لغوية، قبل الانقضاض على الفريسة. من مذابح جنين 2002 الى مذابح غزة 2009، لم يتغير شيء في قاموس الجريمة. عام 2002 كان العمالي بن اليعازر (فؤاد) وزيرا لدفاع شارون الليكودي، وعام 2009 كان العمالي باراك، وزيرا لدفاع خليفة شارون، ايهود اولمرت. اي ان الجنرالين اليساريين، الاول شارك في مذبحة مخيم تل الزعتر، والثاني كان بطل جريمة فردان، لعبا دور يد اليمين الدموية في حرب الإبادة السياسية ضد الفلسطينيين.
من هنا لا غرابة في ان يصعد نجم كاهانا، وان تتقمص حركة (كاخ) في حزب (اسرائيل بيتنا)، وان يقف ليبرمان، المهاجر الجديد من الاتحاد السوفياتي السابق، كي يخير سكان فلسطين الأصليين بين الطرد او الولاء.
المسألة لا تتعلق بخيارات سياسية اسرائيلية يمكن ان تشكل اطارا للبحث، بل تتعلق برؤية استراتيجية تتبناها التشكيلات السياسية الرئيسية: كاديما والليكود والعمل، وهي ترفض الذهاب الى تسوية تاريخية حول قضية فلسطين، معلنة تبنيها لنظرية القلعة المحاصرة التي اعلنها اليمين الفاشي الصهيوني بقيادة جابوتنسكي، في بدايات المشروع الاستيطاني.
فلسطين امام حائط اسرائيلي مسدود، لا احتمال لاختراقه في المدى المنظور، حتى مع مشروع مدريد جديدة، قد تسعى ادارة الرئيس الامريكي اوباما الى فرضه.
والمخيف ان الاسرائيليين لا يعون حجم الكارثة التي تحل بالمنطقة نتيجة هذا المنطق الأعمى، بل يذهب احد الفلاسفة الاسرائيليين الى تبرير قتل المدنيين، وتقديم فلسفة كاملة للجريمة، تقوم على تجريدها من اطارها السياسي.
البروفيسور آسا كيشر، استاذ الفلسفة في جامعة تل ابيب، والحائز على جائزة الدولة، شرح لصحيفة 'هآرتس' مضمون فلسفته التي تبناها الجيش الاسرائيلي، القائمة على اولوية الحفاظ على حياة الجنود الاسرائيليين، عبر التضحية بحيوات المدنيين، في عملية سحق ما يسمونه في اسرائيل ارهابا.
اي ان الاسرائيليين لم يعودوا مهتمين بصورتهم في الرأي العام، ولم تعد لغتهم معنية بالتستر على الجريمة، اذ وصلت الجريمة ولغتها الى تطابق كامل، يعبر عن نفسه من خلال لغة ليبرمان العنصرية من جهة، ومن خلال الموت السريري لليسار الاسرائيلي الذي صار اليوم في حكم المنتهي.
كيف نقاوم الجريمة؟
هذا هو السؤال الفكري والاخلاقي المطروح امام الفلسطينيين. نستطيع بالطبع ان نتبنى فكرة نهاية مشروع الدولتين، وهي نهاية سعى الاسرائيليون اليها منذ البداية. التوسع الاستيطاني المتوحش، الهرب من غزة بهدف تحويلها الى غيتو مقفل، وبناء الجدار العنصري الذي يحول كل مناطق الضفة الغربية غيتوات.
غير ان نهاية مشروع الدولتين والسعي الى دولة ثنائية القومية، وهو مشروع اخلاقي، سبق لإدوارد سعيد ان طرحه، لا يأخذ في الاعتبار المدى الاجرامي الذي يستطيع ان يصل اليه القادة الفاشيون الاسرائيليون. فالترانسفير الذي يقترحه ليبرمان ليس مزاحا، والاتكال على الرأي العام العالمي من اجل صده، هو المزاح بعينه. فهؤلاء الفاشيون يحلمون بطرد الفلسطينيين من اسرائيل، والخلاص مما يسمونه مشكلة عرب اسرائيل. لذا فالمسألة التي علينا مواجهتها قريبا، سوف تكون اكثر كارثية من كل الكوارث التي تعرض لها الشعب الفلسطيني.
الجواب على لااخلاقية العدو وهمجيته، يكون بالعودة الى بديهتين:
البديهة الاولى، هي التأكيد على ان المقاومة الفلسطينية هي مقاومة للاحتلال. اي اعادة الامور الى نصابها اللغوي. فالكذبة الاسرائيلية حول الارهاب وما الى ذلك يجب ان تتوقف. هناك احتلال، وعلى الاحتلال ان يمضي، والمقاومة حق لا جدال فيه.
البديهة الثانية، هي ضرورة احداث تجديد جذري في القيادة الوطنية، انطلاقا من العودة الى وثيقة الأسرى. لم يعد الوضع قابلا للاستمرار على ما هو عليه. التخشب الذي يصاحب الانقسام بين قيادتي رام الله وغزة، يجب ان ينكسر لمصلحة وحدة وطنية حقيقية. الوحدة ليست وليدة مفاوضات تجري هنا او هناك، بل وليدة برنامج سياسي جديد يفرض نفسه على الجميع، ويستعيد اللغة النضالية الفلسطينية، كلغة وطنية، صنعتها فكرة مقاومة الاحتلال.
هذان الجوابان لن يحلا المشكلة بالطبع، لكنهما سيسمحان للفلسطينيين باستعادة قدرتهم على المناورة السياسية، وترسيخ وحدتهم. انهما جوابان في وقت عربي ضائع، وسط انحطاط سياسي واخلاقي لا سابق له.
جوابان يسمحان لفلسطين بالبقاء في حلبة هذا الصراع الطويل، الذي سيطبع حيوات اجيال جديدة من الفلسطينيين والعرب، لأن السلام لا يزال بعيدا جدا.
a
[quote]