لندن – من خالد الشامي:بدت الدعوة لوفد حماس لزيارة القاهرة محاولة مشجعة لاستعادة المبادرة في الملف الفلسطيني، خاصة مع تعثر ولادة قرار في مجلس الامن بوقف العدوان، ما سيفتح الباب ام انعقاد قمة عربية "بمن حضر" حسب تعبير الرئيس السوري بشار الاسد.
وفي اطار هذا السياق جاء اعلان المبادرة المصرية بعد جولة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي متسرعا وغامضا في نظر مراقبين، بل انه بدا بمثابة مخرج للمأزق الذي وقعت فيه آلة الحرب الاسرائيلية بفشلها خلال اثني عشر يوما من الحرب الشاملة في اخضاع المقاومة.
ومن الناحية الواقعية يحتاج الجيش الاسرائيلي لما يعرف بـ"الوقفة التعبوية" لاعادة التعبئة العسكرية والمخابراتية قبل استئناف العدوان.
ويترك النص الرسمي للمبادرة لاسرائيل عمليا الحرية في تحديد فترة الهدنة حسب متطلبات القتال، وهو ما عرضته اسرائيل بالفعل امس عندما اعلنت وقف القصف لثلاث ساعات. وتقول المبادرة في هذا الشأن:
(اولا: قبول إسرائيل والفصائل الفلسطينية لوقف فوري لإطلاق النار لفترة محددة بما يتيح فتح ممرات آمنة لمساعدات الإغاثة لأهالي القطاع ويتيح لمصر مواصلة تحركها للتوصل لوقف شامل ونهائي لإطلاق النار).
كما ان عدم وجود مراقبين محايدين قد يسمح لاسرائيل بالتمتع مرة ثانية بميزة "المفاجأة"، باستئناف مباغت للعدوان بعد أن تتهم المقاومة بخرق الهدنة. الا ان الاخطر هو ان اسرائيل التي سارعت بالترحيب بالمبادرة تسعى لاستغلالها في الفوز بمكاسب عجزت آلتها العسكرية عن تحقيقها حتى الان. وهو ما يتضح في هذا البند الثاني:
(ثانيا: دعوة مصر كلا من إسرائيل والجانب الفلسطيني لاجتماع عاجل من أجل التوصل للترتيبات والضمانات الكفيلة بعدم تكرار التصعيد الراهن ومعالجة مسبباته بما في ذلك تأمين الحدود وبما يضمن إعادة فتح المعابر ورفع الحصار واستعدادها للمشاركة في مناقشة ذلك مع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي ومع الاتحاد الأوروبي وباقي أطراف الرباعية الدولية).
بكلام اخر فتح الباب امام ترتيبات جديدة في القطاع تسمح بوجود دولي لا يقتصر عمله على تنظيم عمل المعبر، بل "تأمين الحدود" ايضا وهو ما لايمكن تحقيقه دون الاستعانة بقوات دولية تنتشر في القطاع. وكان هذا جوهر مشروع مبادرة سابقة تبنتها القاهرة مع سلطة رام الله قبل عدة شهور ورفضتها حماس ، وهو موقف سارعت الحركة لتأكيده مجددا امس.
ويرى مراقبون ان الاستعانة بقوات دولية سيضرب اكثر من عصفور بحجر واحد، حسب المثل المصري، ولكن لمصلحة اسرائيل ، ومثال ذلك:
ـ انهاء حكم حماس لصالح قوة دولية تملك السلطة الحقيقية على الارض، وتسمح بعودة "اقل احراجا" لسلطة رام الله للقطاع.
- فشل المبادرة في النص على انسحاب فوري للقوات الاسرائيلية يوحي بان حماس ستكون مضطرة لدخول المفاوضات تحت الاحتلال، بكل ما يمثله هذا من ضغط امني وسياسي عليها ما يهيئ الاجواء لفرض تنازلات عليها.
-تشديد الرقابة على الحدود البرية والبحرية لمنع وصول الاسلحة ما يعني تجفيف منابع المقاومة وتصفيتها بالكامل، وهو هدف شاروني قديم لم يغب ابدا عن صدارة الاجندة الاسرائيلية.
ومع تصفية المقاومة ، تنتهي القضية الفلسطينية عمليا، وينفتح الباب امام اقامة "دويلة الكانتونات" الممزقة داخل الجدار.
-يتحول القطاع الى ما يشبه "كوسوفو" او "صومال" جديدة، ما يجعل معركته ضد المجتمع الدولي بالكامل، وليس الاحتلال الاسرائيلي. كما ستتخلص اسرائيل من المسؤولية الاخلاقية والقانونية عن القطاع، دون ان تتنازل عمليا عن الحق في اعادة العدوان عليه تحت زعم "الدفاع عن النفس".
والملفت ان يأتي الاقتراح من مصر، التي سيكون امنها القومي اول المتضررين من وجود صومال او كوسوفو جديدة على حدودها. كما ان التدويل يجعلها مسؤولة دوليا عن اي خرق للحدود، بل ويمس بسيادتها على حدودها.
وسيمثل هذا اكبر مكافأة لاسرائيل على عدوانها، بدلا من اجبارها على دفع ثمن مناسب يضمن عدم عودتها لمثل هذا العدوان.وكأن الحكومة المصرية تضع حركة حماس بين خيارين، كلاهما يعني تصفيتها سواء كحركة مقاومة وحكومة امر واقع.
ويتفق هذا السيناريو مع ما نقلته صحيفة اسرائيلية،ونفته القاهرة بسرعة، حول عدم رغبة الحكومة المصرية في خروج حماس منتصرة من هذه الحرب. واما تتجاهله المبادرة المصرية فان حماس لاتملك رفاهية التختيار. فما ان تخرج منتصرة، او فهي لن تخرج ابدا من هذه الحرب.
اما البند الثالث للمبادرة فينص على: (ثالثا : تجديد مصر دعوتها للسلطة الوطنية وكافة الفصائل الفلسطينية للتجاوب مع الجهود المصرية لتحقيق الوفاق الفلسطيني باعتباره المتطلب الرئيسي لتجاوز التحديات التي تواجه شعبهم وقضيتهم في الظرف الخطير الراهن وفي المستقبل).
ان التلويح بورقة المصالحة الوطنية في هذا الظرف يمعن في محاولة ابتزاز الموقف لكسب كل ما يمكن كسبه من القصف الاسرائيلي.
فالمتوقع من حماس المدمرة بنيتها التحتية يجب ان يكون اكبر من حماس المحاصرة، والا فانها هي من يعوق المصالحة(...). وكأن الوحدة الوطنية تحتاج الى دعوة في هذه الظروف، بينما ما تبقى من الوطن والقضية والمقاومة كله مهدد بالضياع.
ان صمود المقاومة في غزة خلال الاثني عشر يوما الماضية جعلها هي كعبة الوحدة الوطنية بل والقومية والاسلامية، وبالتالي فان من يريدون ان ينضموا الى تلك الوحدة عليهم ان يذهبوا اليها وليس العكس.
اذ انه ليس من الواقعي ان تقبل حماس بما كانت رفضته قبل ان تدفع الثمن الباهظ، وقبل ان تحصد رصيد الشرعية الاكبر سواء داخل فلسطين او خارجها، شرعية الدم.