كل يوم تعد غزة شهداءها وتكفن جثث أطفالها وتلتقط فضائياتنا صور الاشلاء المبعثرة ونظرات صبيانها وبناتها بعد ان روعتهم قنابل تمطر عليهم من السماء لا يبددها شلل النظام العربي الرسمي وصمته المخزي مهما كثرت البيانات والتصريحات التي تدين وتشجب.
انها عملية تصفية جماعية بأيد اسرائيلية وتضامن عربي رسمي تقوده مصر والسعودية، الاولى تحكم الحصار البري والثانية تتوارى خلف شعارات زائفة ومبادرات وهمية وتنسج خيوط التطبيع خلف الكواليس وتتملص من مسؤولية عربية واسلامية لتخرج من قضية العالم العربي الاولى التي نغصت عيشها واقلقت سلامها وانبطاحها لعدو شرس وحليفه الاشرس. ستبتعد عن مصطلحات التخوين والعمالة من جهة والمقاومة المدافعة من جهة اخرى، اذ اننا اليوم في مرحلة حرجة لا تصلح مثل هذه المصطلحات لنهضة امة او لفك حصار او لطرد محتل. اثبت النظام العربي الرسمي بشقيه الصامد او هكذا يدعي والمتخاذل وهو المعروف بافلاسه الفكري والعسكري والاقتصادي أمام منظومة عالمية خضعت لها الأمة وليس من السهل اليوم تجاوزها او اعادتها الى الوراء. منهم من يقاوم بالشعارات والتصريحات والغوغاء والممانعة ومنهم من يستسلم عن عمد وتصميم. كلاهما اثبتا فشلاً ذريعاً في التصدي لاحتلال مباشر تماماً كما هو الحال في فلسطين والعراق او احتلال غير مباشر كما هو الحال في دول الاعتدال التي تدعي ممارسة الدبلوماسية وهي في الخفاء بساط تدوسه سياسات كبرى وتملي عليه اجندتها وتضمن سلامتها اما بقواعد عسكرية او باحلاف خفية. امام هذا المشهد المزري انطلقت مسيرات الاحتجاج ومظاهرات الغضب كتنفيس عن المكبوت والمغبون والمستتر. من حذاء عراقي لم يصب هدفه الى زورق يحمل بعض المساعدات الى غزة. انبهر العرب من محيطهم الى خليجهم بالحذاء الغاضب والزورق الانساني وترددت صور الحذاء وكثرت المزايدات على قيمته ورمزيته ولاكت الألسن الشكر والتقدير لزورق المساعدات الانسانية ووقفنا نتأمل ما وصل اليه الحال. هل نقاوم الاحتلال بالحذاء والزورق؟
أمة العرب في القرن الحادي والعشرين تتأرجح بين حذاء وزورق وان علمنا ان اكثر من نصف الشعب العربي لا يملك حتى الحذاء إذ انهم يرزحون تحت فقر رهيب واكثرهم لا يحلم الا بزورق ينقله عبر البحار في رحلة هجرة اخيرة تنتشله من براثن العوز او القمع حيث سرحت الأنظمة جيوشها او قلصت عددها واستبدلتها بترسانة استخباراتية تضمن امنها وليس حدودها. نعلم اننا وصلنا الى طريق مسدود. لكن هيهات ان نخسر قلمنا في عملية جلد للذات وصلب للضمير الجمعي فنتجاوز دماء الشهداء الذين سقطوا وسيسقطون حتماً الى ان تعاد الحقوق لأصحابها ونرجع نحتل مكانتنا بين الأمم ليس كأمة مستعلية متجبرة تلغي الأمم الأخرى وانما كفاعل قوي في مجتمع دولي يحترمنا ويقدر ثرواتنا ويعترف بعطائنا وما نقدمه للانسانية جمعاء. نحتاج الى صياغة هويتنا بعيداً عن الشوفينية والاستعلائية حتى نفعّل في مجتمعنا مفهوماً جديداً ينهض بنا الى مستوى الأمم المتحضرة. في هذه اللحظة الحرجة اثبتت لنا انظمتنا المتهاوية عقمها وتخاذلها وبرهن لنا ما يسمى زوراً بالشارع العربي حيويته والتي حتى هذه اللحظة لم تتجاوز الغضب. نطلب اليوم الغاء مفهوم الشارع لأنه يستدعي صورة الغوغائية غير المنظمة. الشارع الغاضب اليوم ليس بشارع وانما هو يتكون من منظمات كثيرة منها السياسي والايديولوجي والفكري والانساني والديني والطائفي وتقع المسؤولية على عاتق هذا الموازييك المختلف الألوان ان يرشد الغضب ويوجهه الى المسار الصحيح حتى لا نبقى على هامش الأمم نداس بأحذية أقوى من حذاء العراق وزورق يتمترس به ما هو اكبر من المساعدات الانسانية. فالأمم لا تتحرر من احتلال الأنظمة او الخارج بحذاء وزورق. تتطوع الأمة العربية اليوم بقنابل تهبط من السماء وأخرى خفية تلقيها انظمتنا في طيات مجتمعنا وحناياه الكثيرة وتبث سمومها خلال ساعات من الاعلام المزيف الهادف اولاً واخيراً الى قتل المقاومة وجلدها كل يوم فيعاقب هذا الاعلام الضحية وليس الجلاد. كذلك لا تتحرر الأمة ببيانات صادرة من علماء ومفكرين وناشطين تعطيهم انظمتهم الضوء الأخضر لاصدار بيانات الشجب تنفيساً عن احتقان داخلي وحالة ركود وانتظار بعد ان فشل هؤلاء في تغيير مسيرة نظامهم وسياسته الداخلية والخارجية. لن تنقذ بيانات علماء السعودية وناشطيها اطفال غزة ولن تعيد صدقاتهم وصدقات نظامهم الأرض المحتلة بل ما يعيدها هو اقتلاع نظامهم من اطهر بقعة في ارض المسلمين واستبدال هذا النظام بآخر يضمن حقوقهم وكرامتهم قبل ان يعيدها الى اهل غزة. فغريب على شعب لا يستطيع حماية نفسه بنفسه ان يتصدر الدفاع عن غزة الجريحة وكيف على نظام يلجم رعيته ان ينطق بكلمات الشجب والادانة وكيف على نظام استباح رعيته ان يقف في وجه من استباح غزة وأهلها. تعرف غزة كيف تقاوم وستقاوم مهما ارتفع عدد الشهداء وتناثرت الاشلاء وان طال الانتظار فهو يصب في صالح غزة وقضيتها ويضعف النظام العربي بما فيه السعودي والمصري اللذان تصدرا مشروع حصار غزة ومهدا لقنابل اسرائيلية مميتة وآخرين يبدون اليوم كحاضرين غائبين عن مسرح الحدث والجريمة. وكما هوت رؤوس كبيرة على خلفية النكبة الأولى ستهوي أخرى في المستقبل القريب وستدفع ثمن تآمرها وتخاذلها وهذا مرهون بترشيد الغضب الذي تشهده الساحة العربية من قبل فعاليات كثيرة. ويجب عليها ان تعترف ان معركتها الأولى هي مع الذين يواجهونها بالعصي والأسلحة المطاطية والحقيقية يومياً حتى عندما تتوجه بغضبها تضامناً مع اهل غزة وليس تجاه من يقف حجر عثرة في سبيل وصولها الى غزة ووصول مساعداتها الى أحوج الناس اليها. لقد جربت هذه الأمة الواناً مختلفة من المقاومة ضمن ايديولوجيات متعددة ومتباينة. رفعت شعارات كبيرة منها اشتراكية واخرى قومية واسلامية لكنها اكبر من ان ترفع الحذاء وتركب الزورق. وستظل تفشل طالما انها لم تحرر ذاتها من استعمارها الداخلي وقمعها المستمر من قبل أقليات متسلطة تحفر كل يوم قبراً جديداً وتقيد حتى الأموات بسلاسل حديدية. لا يمكن لهذه الأمة ان تتعب او تمل وستظل تنبش موروثها ومخزونها في عملية بحث وتفتيش عن نبض حي تفعله في مقاومتها وصبرها ولو بعد حين. لا تحيا امة او تنهض ان كانت تعد امواتها وتحصي جراحها او تصدر ارقام ثرواتها الوهمية والتي حتى اللحظة لم تضمن لها سوى حضارة عمرانية زائفة ومستوردة. لقد تحررت افقر شعوب العالم من استعمارها الخارجي وركع لها جبروت المستعمر وكذلك ستتحرر غزة وغيرها لأن هذه هي سنن الحياة ومسيرتها التي عرفناها من خلال المعايشة والتاريخ. وستتهاوى جدران الأنظمة الجاثمة على صدورنا شاء هؤلاء ام أبوا وربما سيطول الانتظار ولكن علينا ان نهيئ الأرضية الصلبة لأجيال قادمة لا ان نحبط الاحياء اليوم فنورث القادمين جيلاً يانعاً لكنه خانع منبطح مفرغ من مفهوم الحرية والكرامة منغمس بملذات العصر التي تهيئها له انظمة فاشية تجد في كرة القدم والرقص والسينما ملاذاً لجيل جديد يبعده عن هدفه وينحرف به عن مسيرته. سترقص الشعوب العربية يوماً ولكن على انغام مختلفة وتهز جسدها لتنفض عنها رواسب الخنوع والتوسل وستوثق بالصور المتحركة سينما ليست موجودة حالياً ومن منطلق آخر ستكون افلامنا الجديدة توثيقاً لدراما القمع السوداء وكوميديا ساخرة من انظمة منقرضة. بعد مجزرة غزة لن نطالب باصلاح معتوه تلوكه ألسنة اكثر الناس تلكؤاً وتجتره اكثر الامعاء امتلاء. لم تفعل اسرائيل فعلتها الشنعاء بغزة لولا ان انظمتنا قد اصابتها التخمة فاستلقت ودخلت في غيبوبة وسبات عميق وساعدتها بذلك قوة شرائية عظيمة ومعسكر استخباراتي كبير واطياف اجتماعية استقالت من مسؤوليتها، وآثرت الوظيفة على الحرية، والمنصب على الموقف، والسجن الكبير على السجن الصغير، والركوع على الاستقامة. الابادة الجماعية في غزة جزء صغير من لوحة كبيرة لن تتغير الا بتغير المعادلة الكبيرة لصالح شعوب المنطقة والتي يجب ان تفرز مقاومة لا تكون اكثر استبدادية من الأنظمة التي تحاربها وتعارضها ولا تكون اكثر دموية من الانظمة الاستخباراتية التي تقمعها. عندها فقط نستطيع ان نضمن البديل الذي لا يأتي الى المنصة نتيجة مداعبة احلامنا فينسج لنا الاوهام مستغلاً لحظة غضبنا واستنفارنا وضعفنا. ان لم نقوّم غضبنا بعيداً عن الحذاء وصدقات الزورق ونرشد هذا الغضب في لحظة مراجعة جريئة تنتشلنا من الوضع المزري اجتماعياً وسياسياً وفكرياً لن نستطيع مقاومة انظمة فاسدة او عدو محتل. وسنظل نرفع الحذاء ونرسل الزوارق ونحن من ركبها طلباً لمجد لنتذكر كيف احرقنا الزورق في الماضي والبحر خلفنا والعدو امامنا. ولكننا اليوم نجد هذا العدو في كل مكان يحاصرنا في الداخل والخارج. وان لم نضمن امننا في الداخل ونقوي قدرتنا على تنظيم انفسنا لن نحصد سوى قنابل تنهمر من السماء تقابلها احذية بالية وزوارق فارغة. ستصبر غزة وستعد الأنظمة ايامها المتبقية.
' كاتبة واكاديمية من الجزيرة العربية
www.madawialrasheed.orgqpt91