في زيارته الأخيرة للقدس وقبل توليه منصب الرئاسة وصف أوباما إسرائيل بأنها 'معجزة تكشفت' منذ إعلان قيامها قبل 60 عاما. قد يفهم هذا الوصف في سياقه إذا كانت المعجزة في فهم أوباما خرقا للمنطق وكسرا للقواعد العسكرية ومحوا للحقائق التاريخية، فنظرة سريعة على الخارطة الجيوسياسية للمنطقة تظهر إسرائيل كدولة صغيرة محاطة بالأعداء إحاطة السوار بالمعصم وبشعوب ترحل عيونها كل يوم إلى القدس وتغلي غضبا لغزة ولكل قطرة دم تسفكها قنابلها الفسفورية، دولة أجبرتها منظمات شبه عسكرية على إخلاء معظم سكانها في الشمال والجنوب، فكيف تصمد هذه الدولة الهزيلة لأكثر من ستين سنة؟ أمر غير منطقي ولا يمكن تفسيره ظاهريا إلا...بالمعجزة.
بعد حرب تموز ' نشر جيفري غولدبيرغ مقالاً بمناسبة مرور ستين عاماً طرح فيه على نفسه وعلى إسرائيل أسئلة كبيرة. ومن هذه الأسئلة:'هل تستطيع إسرائيل البقاء لستين عاماً أخرى في هذا الجزء من العالم الذي تنهض فيه كل أشكال المقاومة ضدها؟ وكيف يمكن لإسرائيل تحقيق الازدهار إذا كان جيشها لم يستطع هزيمة مجموعات صغيرة من المقاتلين الذين يطلقون الصواريخ؟ 'و تبدو لا منطقية هذه الدولة واستثنائية وجودها في تصريحات ساستها وإصرارهم المستميت على الاعتراف بهم، وهو ما لا تفعله الدول الطبيعية في محاولة منهم للرد على الطعونات المتعلقة بشرعية نشأة 'إسرائيل' وأحقيتها بالبقاء. كما تظهر عجائبية تلك الدولة في تأكيد قادتها دوما على أن القدس عاصمتهم الأبدية وهو ما لا تفعله أي دولة طبيعية فلو قام رئيس وزراء اليابان يوما بالتأكيد على أن طوكيو عاصمة لليابان فسيكون مثار سخرية وتندر، ويضاف إلى ذلك صراخ قادتهم أمام العالم وقولهم بوجود من يهدد دولتهم بالإزالة، وأي دولة طبيعية في العالم تفكر بهذا المنطق؟فلم تدعي كوبا مثلا أن أمريكا تريد إزالتها من الوجود بل ولم يخطر في بالها هذا مطلقا. وإصرار 'إسرائيل' على ضرورة دعم الغرب لها لاستمرار وجودها يعطي الحق لأوباما لوصفها بالمعجزة،فكيف له أن يفسر نشوء دولة على أساس وعد من دولة أخرى لا تملك الأرض وكيف يفسر خاتمة حرب 73 التي اجتاز فيها الجيش المصري قناة السويس واقتحم خط بارليف وانتهت بمعاهدة كامب ديفيد التي حفظت أمن تلك الدولة من جهة مصر حفظا كاملا تاما.. أليست معجزة؟ كيف لباراك حسين أوباما أن يتصور نهاية حرب 73 في سورية التي سيطر جيشها في بداية الحرب على منخفضات طبرية وما حولها وكانت خاتمة ذلك اتفاقية الجولان والتي حفظت أمن 'إسرائيل' في الجولان على الرغم من أنها لا زالت تحتلها حفظا آمنا مطمئنا...أليست معجزة؟ وعلى أرض معركة الكرامة وقعت معاهدة وادي عربة وحفظت حدود 'إسرائيل' من جهة الأردنô وتوالت المعجزات فبعد حرب لبنان 2006 والتي دكت فيها صواريخ المقاومة ما بعد حيفا كانت خاتمتها القرار1701 الذي حفظ أمن الدولة 'المعجزة' في جنوب لبنان لدرجة أن جبهة الشمال بقيت باردة رغم المجازر في غزة. وها نحن أمام المواقف البطولية لأهل غزة تنتهي باتفاق أمني بين إسرائيل وأمريكا يحفظ أمن إسرائيل في أعالي البحار ومنخفضاتها ثم يتبعه مؤتمر شرم الشيخ العربي - الأوروبي - التركي ليصوغ نتائج أمنية تدعم الدولة العبرية، وتفرض حصارا تسليحيا على غزة أدهى وأمر من الحصار السابق.. وبعد ذلك ألا يحق لأوباما أن يصف إسرائيل بالمعجزة؟ ألا يحق له أن يتصور أن 'حل قضية الشرق الأوسط 'ممكن فقد تجري على يديه بعض من تلك المعجزات لتحفظ أمن إسرائيل وتطيل في عمرها.
ويبقى أمام الرئيس أوباما إن هو أراد 'السعي للمضي قدما مع العالم الإسلامي على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل' كما ذكر في خطاب التنصيب يبقى أمامه معرفة أن أمة من طنجة إلى جاكرتا لا تؤمن بكل تلك المعجزات وتؤمن بمعجزة واحدة خالدة، تلتف حولها وتسعى لتجسيدها دستورا في دولة واحدة لتلقف ما صنعوا من 'معجزات'، فالأيام دول ولكل زمان دولة ورجال ويبدو أن كل من هب ودب قد استنفد زمانه وأقام دويلته، وقد آن الأوان لهذه الأمة أن تقول كلمتها وتملك زمام أمرها وتوحد صفوفها فالتاريخ والواقع يثبت أن ذلك ليس بمعجزة لأمة سطرت عبر تاريخها أروع الملاحم والفتوحات وبمقياس أوباما فقد صنعت أروع ما شهده البشر من معجزات.
د. مصعب أبو عرقوب