علاوة على الروايات والقصص القصيرة التي حققت للمغفور له الطيب صالح مكانة متفردة في الأدب العالمي، حيث أنه من أشهر الأدباء العرب في العالم، فقد كان لمقالاته الصحافية دور بارز في حفظ التواصل بينه وبين محبيه من العرب. بل إن هذه المقالات بقيت لمدة طويلة هي الصلة الوحيدة بينه وبين القراء. ذلك أنه كان من النزهاء القلائل الذين امتلكوا شجاعة التوقف عن الكتابة الأدبية في فترة مبكرة عندما شعر أن لم يعد عنده من الإبداع مزيد. ولعل أهم هذه المقالات هي تلك التي ظل ينشرها أسبوعيا طيلة أعوام بين الثمانينيات والتسعينيات في مجلة 'المجلة' اللندنية، بعنوان 'نحو أفق بعيد'، والتي كان يذيلها بتلك العبارة المبشرة 'للحديث بقية'. ولا بد أن من اطلع على مجموعة 'مختارات' التي صدرت في السنوات الأخيرة متتابعة في تسعة كتب قد لاحظ أن بعضها يحتوي مقتطفات من هاتيك المقالات. وبعد انقطاع طويل عاد الطيب صالح في منتصف 2006 إلى الكتابة في زاوية 'نحو أفق بعيد'، ولكنه سرعان ما انقطع من جديد. ولعل ذلك تزامن مع اشتداد علته.
التوقف عن الكتابة الإبداعية في فترة مبكرة من العمر شيمة من شيم الفروسية النادرة، خاصة إذا كان الأديب مُقلاّ أصلا. إلا أن شجاعة الانسحاب المبكر هذه، على ندرتها، قد جمعت بين الطيب صالح والأديب التونسي محمود المسعدي، الذي توفي في نهاية 2004. وفي هذا يقول الطيب صالح ذاته، في مقال بتاريخ 14 نيسان (ابريل) 1993، إن المسعدي 'قد فرغ من كل كُتبه منذ خمسين عاما وليس له، حسب علمي، غير هذه الكتب'.
ويثني الأديب السوداني في المقال المذكور على طه حسين، الذي كتب منوها برواية 'السد' للمسعدي في صحيفة 'الجمهورية' القاهرية بتاريخ 27 شباط (فبراير) 1957، لأنه 'انتبه في وقت مبكر إلى موهبة تونسية كبرى لا يزال صاحبها إلى اليوم ليس معروفا على نطاق واسع في المشرق العربي. ذلكم هو محمود المسعدي، صاحب 'السد' و'حدث أبو هريرة قال' و'مولد النسيان'. كل كتاب من هذه الكتب تحفة نادرة ولؤلؤة عجيبة لا تتأتى إلا لعتاة الغواصين في بحار المعاني. ولا مراء أن محمود المسعدي أمير من أمراء البيان العربي في هذا الزمان'. ثم يسترسل الطيب صالح فيروي إحدى زياراته للمسعدي في بيته: 'وجدناه يقرأ القرآن في مصحف أمامه، وحوله كتب مفتوحة من بينها كتاب الأغاني. شرّق بنا في الحديث وغرّب بصوته العميق الأجش، وقال لنا إنه معنيّ بمسألة جرْس الآيات القرآنية وموسيقاها، ويتمنى لو وجد الوقت ليؤلف كتابا في ذلك. صوته والبريق في عينيه ورنة السخرية اللطيفة في حديثه تنبئك أن هذا رجل حدّق طويلا في مجاهل العقل والروح، وأبحر بعيدا في صحبة العقول الجليلة في تراث الإنسانية'.
ولأن الطيب صالح لم يكن موسوعي الثقافة كوزموبوليتي النزعة فحسب، بل كان مهتما بأصيل الإبداع العربي حيثما وجد، فقد كتب أيضا عن الروائي التونسي البشير خريّف، الذي توفي عام 1983، قائلا إن الفضل في معرفته بروايته 'الدقلة في عراجينها' يعود إلى الشاعر عبد الرحمن الأبنودي. وقد وضع الطيب صالح مقدمة جميلة لهذه الرواية ضمن سلسلة 'عيون المعاصرة' التي كان يشرف عليها الناقد الأدبي توفيق بكار. وبسبب تقارب العوالم بين صعيد مصر وشمال السودان و'الجريد' في جنوب تونس، فقد كتب الطيب صالح أن 'الذي يقرأ شعر الأبنودي، ويقرأ لي، ويقرأ للبشير خريّف، يجد أن ثلاثتنا كأننا نمتح من بئر واحدة'.
كان بِرّ الطيب صالح بلغة الضاد مبهرا معديا: ما إن تقرأه حتى تدمنه، خاصة إن وقع بين يديك بعض حديثه العذب في قديم الشعر العربي من المهلهل إلى أبي العلاء، مرورا بصاحبه 'المتنبي العظيم الذي يصيب كبد الحقيقة كل مرة'. أما إذا ابتغيت دليلا على ما بلغه من الرفق ورقة الوجدان، فحسْبُك أن تقرأ الجزء الأول من كتابه 'المضيئون كالنجوم' (الثاني في المختارات) عن رجالات الإسلام، إذن لرأيت كيف أنه يذهب في استصفاء الأبلغ والأوقع من الروايات التاريخية كل مذهب حتى يُريك ما قد رأَى من آيات الجلال، ثم لرأيت كيف أنه بالغ من نفسك ذلك كله دون كثير قول من عنده، إلا أن يكون ومضَ إشارة وإنارة.
كان، رحمه الله، يقول 'إن من يحب اللغة العربية لا بد أن يحب المتنبي'. وقد حق من اليوم القول إن من يحب العربية لا بد أن يحب الطيب صالح بمثلما يحب أبا الطيب المتنبي.