من توابع محرقة غزة تلك الحالة التي تدنى إليها الخطاب الرسمي في مصر، ليصبح ناطقا باسم أكبر منظومة للفتنة والشقاق والفرقة، وهو أكثر الخطابات السياسية كراهية وعداء للعرب والمسلمين، وفي المقدمة منهم أهل فلسطين. وتطابق هذا الخطاب مع نظيره الصهيوني، ولا يتوانى عن مواجهة المقاومة ومحاربة كل من يراهن عليها، أو يعلي من شأن ثوابتها الوطنية والتاريخية والدينية. ويبذل جهدا خارقا في إجهاض الآمال المشروعة في التحرير واستعادة الأرض، وهو حق كفلته الشرائع لكل من يواجه محنة الاستيطان والاحتلال.. هذا الخطاب أخذ على عاتقه تفجير حرب أهلية متعددة الأطراف.. مصرية عربية.. وعربية عربية.. وعربية إسلامية.. إنها حرب بلا مدافع ولا قنابل ولا طائرات أو بوارج. ويقودها حسني مبارك وتطلق حممها في كل اتجاه. صوب 'المعتدلين' و'الممانعين'، ومن يتحدث عن المصالحة، ولو على سبيل اللغو أو المناورة أو إبراء الذمة يجده بالمرصاد، ومن يسعى للتخفيف من وطأة الذي جرى يلاحقه بالرسل والمبعوثين، ويشن عليه حملات التشكيك والتشويه والتعبئة لهذه الحرب تقوم ببث الانعزالية العمياء، والشوفينية المتعصبة، والاستكبار الأرعن، والغرور الكاذب، ومادتها أحاديث مرسلة عن أدوار وهمية، وإرادات مشلولة، وحلول بلا جدوى، ولا يخلو حديث رسمي من مَن وادعاء ومعايرة.. إنه آخر من يعطي وأول من يستفيد. وهذا يضيف قيمة كبرى لفتح ملف المساعدات العربية لمصر، رغم كونه موضوعا واسعا يصعب الإلمام به في هذه العجالة، ومن المفترض أن يكون على شكل دراسة توفيه حقه لأهميته في هذه المرحلة، وفي ضوء ما هو متاح من مساحة نعرض لنماذج سريعة على سبيل المثال لا الحصر.
في البداية أنوه إلى تصحيح لمعلومة وردت في مقال السبت الماضي حول تاريخ خروج محمد فائق وفريد عبد الكريم وعلي صبري وسامي شرف من السجن.. لم يكن خروجهم عقب اغتيال السادات.. كما ذكرت.. إنما كان بعده بشهور.. في ايار/مايو 1981. وعن موضوع المساعدات العربية لمصر، فنحن من هؤلاء الذين لا يتحسسون من تناول هذا الموضوع لكوننا نؤمن بوحدة الأمة، ونرى في ثرواتها نصيبا لكل أبنائها وأقطارها.. وليس هذا بدعا على العرب، فعلى مدى التاريخ أثبتت الجماعات البشرية.. المتآلفة والمتكافلة.. أنها مثل الأواني المستطرقة.. تأخذ من بعضها وتعطي، ولم يألف المخضرمون هذا الشذوذ في العلاقات ولا اعتادوا على تعالي صيحات المن، وليت هذه الصيحات اقتصرت على دوائر الحكم لكنها انتقلت إلى علاقات المحكومين.. تركت دهاليز السياسة إلى فضاء الحياة العامة، ويمكن القول 'رب ضارة نافعة' حيث أعادت محرقة غزة وهبة الأمة العربية والعالم الإسلامي بل والعالم كله.. أعادت اكتشاف زيف هذه الصيحات وعرت التصرفات المخجلة لأهل الحكم في مصر. وبدأ يظهر للعيان أن صيحات المن التي يتعامل بها بعض المصريين مع أشقائهم العرب، والعكس، تتم بفعل فاعل، وثمرة تحريض رخيص ومستمر، أو تصدر عن جهل مطبق سرعان ما تحطم على صخرة صمود أهل غزة، وثبت أن صاحب المصلحة في إشعال الحروب وإشاعة الفتن هم حكام مصر.. أصحاب النعرات الكاذبة حول الدور والأصالة والريادة.. فمن له دور لا يتدنى به إلى هذا الدرك الأسفل، والأصالة لا تهبط لهذه الدرجة من الإسفاف. والريادة ليست من مهام الكسالى ولا عمل رعاة الفساد، ولا هي من اختصاص لصوص المال العام والخاص.. الكريم لا يمنن، والواجب لا يكون بالادعاء، والشرف لا يستقيم بالتواطؤ أو المشاركة في إزهاق الأرواح وحصار الأبرياء والتنكيل بهم. كلها قيم لا علاقة لها بسياسة مصر الرسمية ولا تعيها.
لسنا بصدد تكرار الحديث عن المد العربي العارم الذي وقف مع مصر اثناء العدوان الثلاثي 1956. ولندخل مباشرة إلى عام 1967.. كان عاما فاصلا في التاريخ العربي الحديث عموما والتاريخ المصري خصوصا، وعاش العرب قبل هذا التاريخ استقطاباتهم وصراعاتهم المعتادة، التي لا يخلو منها مكان، وكما هو حال 'المعتدلين' و'الممانعين' اليوم كان حال 'المحافظين' و'الثوريين' في السابق.. في ذلك الزمان استحقت مصر أن تكون الأجدر، لأنها كانت الأقدر والأكثر تأثيرا وفعالية ووزنا، وبعد الهزيمة تغيرت أولوياتها بسبب المعركة و'إزالة آثار العدوان'.. تبدلت الأولويات الداخلية والإقليمية والدولية. وعاش العرب أجواء مصالحة كبرى بين أقطاب ذلك الوقت. رعاها مؤتمر القمة العربي بالخرطوم في آب/اغسطس 1967، وهو المؤتمر الذي عرف بلاءاته: لا صلح.. لا اعتراف.. لا تفاوض.. لا تفريط في حق الشعب الفلسطيني. وفيه تقرر تعويض الدول العربية المتضررة من العدوان.. وهي مصر وسورية والأردن وفلسطين، وبدأ وضع مصر يتغير، وانتقل من القدرة على منح الدعم إلى استحقاق العون، ولم ير أحد في ذلك غضاضة، فقد كانت تقود معركة أمة بكاملها، وفي مقدمة قواها الحية. وكانت بالمقابل لا تسمح لذاتيتها أن تكون فوق مصلحة أمتها، أو أن يكون رصيدها خصما من رصيد وطنها الكبير. ولذا فحين لاحت في الأفق نداءات الحلول المنفردة، أعلن عبد الناصر: 'الجولان قبل سيناء والضفة قبل سيناء وغزة قبل سيناء'، وكان هذا يعني أن 'إزالة آثار العدوان' ليست على حساب التحرير الكامل للتراب الوطني والقومي المحتل.
كانت المساهمات السنوية المقررة من مؤتمر الخرطوم موزعة على الوجه التالي: تدفع السعودية 35 مليون استرليني، والكويت 39 مليون استرليني، وليبيا 21 مليون استرليني. واستمر هذا المعدل إلى منتصف سبعينات القرن الماضي، التي شهدت طفرة نفطية وقفز الأسعار من 1.6 دولار للبرميل في المتوسط، قبل الحرب، لتتجاوز 35 دولاراُ للبرميل بعدها.. وزاد بذلك دخل الدول العربية النفطية إلى 25 ضعفا تقريباً. وفي الفترة من 1967 إلى 1973 لم يكن الدعم المقدم لمصر قاصرا على المال أو التأييد المعنوي أو التنسيق السياسي، إنما امتد إلى المجهود العسكري والعملياتي (اللوجستي)، وشاركت أغلب الدول العربية فيه.. فعليا ورمزيا. وكان نموذج المشاركة الأبرز من الجزائر، ومن الرئيس الراحل هواري بومدين، رغم بعض خلافات له مع عبد الناصر، سمعتها بأذني مباشرة ترد على لسان الزعيم العربي الكبير مباشرة قبيل رحيله. وأخذ بومدين على عاتقه تعويض الخسائر العسكرية، خاصة في المدرعات، ولما اقتضى الأمر تدخله ذهب إلى موسكو يحمل صكا على بياض لتغطية كافة تكاليف السلاح المطلوب، وقد كان وحصل على الأسلحة السوفييتية.. فقسمها مناصفة بين المصريين والسوريين.. كانت الجزائر من أكبر الدول الداعمة، وقدمت أقصى ما تستطيع لتعويض خسائر الحرب وتهيئة الظروف للثأر والنصر!!. فضلا عن إرسالها أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل استقروا على جبهة القتال. أما المواطن الجزائري فقد تبرع بحصته من الشاي والسكر للمصريين تحسبا لأي نقص محتمل في الأسواق المصرية وهو ما لم يحدث.
ونفس الشيء يمكن ذكره عن المساعدات الليبية. فقد تولت القيادة الليبية شراء عدد من أسراب طائرات الميراج الفرنسية، وكانت مصر في حاجة إليها لاستكمال كفاءة سلاحها الجوي، وكان الثوار الليبيون قد رفعوا شعار 'قومية المعركة'.. على أساس أنها معركة الأمة العربية كاملة.. واحتل الجنود الليبيون مواقعهم على الجبهة.. وقدمت ليبيا كميات من المؤن والمساعدات.. في الوقت نفسه استضافت المياه الليبية السلاح البحري المصري، وشهد ميناء طبرق عمليات التدريب على عبور قناة السويس وبيانات عملية لاجتياز خط بارليف الحصين. واستقبلت ليبيا قوات مصرية على أرضها، وكانت ما بين 30 ألفا و40 ألف جندي وضابط، وتحولت إلى عمق استراتيجي للمعركة. بجانب أن القوات المصرية التي رابطت على أرضها ساهمت في توفير الأمن وملأت الفراغ التي تركته القوات البريطانية والأمريكية التي جلت عن ليبيا 1970، ومع بداية المعركة 1973 أنكر السادات على ليبيا دورها، وهي التي تصورت أنها شريك.. وعرف مسؤولوها بالحرب من أجهزة الإعلام، مثلهم مثل رجل الشارع تماما. وقوبل هذا الإنكار بغضب شديد من الجيش وقطاعات عريضة من الشعب، ومنهم من شاهد رئيس الأركان بنفسه وهو يشارك في تحميل العتاد والمؤن وهي في طريقها إلى الجبهة.. سحبت القيادة الليبية أسراب الميراج وأوقفت المساعدات، وتوترت العلاقات وغلب عليها الانفعال. ووصل الأمر حد إصدار صحيفة اسبوعية باسم 'الفاتح' قصرت مهمتها على نشر قوائم وكميات المساعدات، بما فيها المواد الغذائية والمناشف وأوراق دورات المياه 'التواليت' وقطع الصابون، ولولا الحملات التي احتدمت بين الإدارتين المصرية والليبية لكانت صفحة الدعم الليبي من أنصع الصفحات في التاريخ العربي الحديث. وساهمت الحملات المتبادلة في جعل المن عملة عربية رائجة، وسياسة رسمية ثابتة في عدد من دول النفط، تجاه المصريين والسودانيين والفلسطينيين واللبنانيين ومن في وضعهم.
وتحول السودان هو الآخر إلى عمق حقيقي لمصر، وكانت له قوات ترابط على الضفة الغربية لقناة السويس، ومن قادتها كان الرئيس السوداني الحالي، عمر حسن البشير.. استضاف السودان الكلية الحربية المصرية في منطقة جبل الأولوياء، ووجدت فيه مصر ملاذا آمنا لطيرانها الحربي، بعيدا عن مناطق الاشتباك وتفاديا للغارات التي وجهها العدو إلى عمق مصر في الجنوب، خاصة مع اندلاع حرب الاستنزاف.
ومن الصعب إنكار ما كان للنفط من دور في دعم مصر، وبه تمكنت من امتلاك أوراق ضغط اقتصادية مؤثرة، وكان لقرار الملك فيصل بن عبد العزيز بوقف ضخ النفط تأثير بالغ، لولا ما حدث بعد ذلك من تنازلات تولاها السادات لصالح الولايات المتحدة والدولة الصهيونية، ونالت تشجيعا من السعودية.
واتخذ الدعم صورا أخرى بعد حرب 1973، منها ما كان عن طريق التمويل المباشر لتغطية صفقات سلاح وقطع غيار حربية للقوات المسلحة المصرية أو قروض منحت من صناديق التمويل العربية لمشروعات محددة، أو ودائع عاجلة من السعودية والكويت في البنك المركزي المصري لمواجهة الازمات. بجانب الأموال التي دخلت بموجب قانون الاستثمار رقم 43 لسنة 1974 وتعديلاته، ولهذا قصة أخرى.
' كاتب من مصر يقيم في لندن
92