يكاد لا يخلو لقاءٌ لديبلوماسيٍّ عربيّ مع وسيلةٍ إعلامٍ غربيّة من تناوُلِ قضيّة 'الصراع العربي-الصهيوني'، أو، وفقاً للأدوات اللغويّة المُستَخْدَمَة لتَشويه وعينا للواقع، 'السلام في الشرق الأوسط'. وكلّما جرى ذلك تَجِدُ المسؤولين الغربيين، بمن فيهم رئيس الامبراطورية الأمريكية باراك أوباما، والإعلاميين الغربيين، الذين يُفاخرُون بالديمقراطية وبالحقّ في الاختلاف، يُشْهِرُون تُهمةَ 'عدم الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود' في وجه كلِّ مَنْ لايَرضخ لإملاءات المشروع الأمريكي-الصهيوني في المنطقة. لا بل إنّ أوباما نفسُه كرَّرَ مؤخّراً العبارة ذاتها حين وضعها ضمنَ الشروط الثلاثة المُسبَّقة للحوار مع الحكومة التي ترأسها 'حماس'.
يُرَدِّدُ كثيرٌ من المسؤولين والإعلاميين الأمريكيين والأوروبيين تلك العبارة على الرغمِ من أنَّها بحدِّ ذاتها عبارة مُبْتَذَلة وملغومة، فهي غير منسجمة لغويّاً ولافكريَّا وإملائيَّة منهاجيَّاً وعنصريّة سياسيّاً، فكيف يكون ذلك؟
أولاً: بقاء أشكال الكيانات السياسية ليس ميداناً للحقوق:
إنّ الذي نَحَتَ هذه العبارة هو من أكثر الناس دهاءً وخُبْثاً. فهو يتَمَسَّحُ بمفهوم 'الحق' ويتلطّى خلفَه لأنّه مفهومٌ من أكثر المفاهيم مَدعاةً لجلبِ التعاطفُ، وهو من أعزّ المفاهيم على نفوس الناس على الإطلاق، وهو مفهومٌ يُلخِّصُ غاية كفاح الناس على مرّ العصور. علاوةً على ذلك فعندما تقول عن شيءٍ ما إنَّه 'حقّ' فإنّ كلَّ مَنْ يُعارضه يَضَعُ نفْسَهُ في خانةِ الإدانة.
يربطُ صائغُ تلك العبارة ربطاً تعسُّفيَّاً ومُبْتَذَلاً ولامعنى له مفهوماً قانونيّاً، أيّ 'الحق'، بمفهومٍ فلسفي: 'الوجود' ثمّ يُوَظِّفَهُ سياسيّاً في خدمةِ أيديولوجيا هي من أكثر الأيديــــولوجيات انتهاكاً للحـــقّ على الإطلاق ألا وهي الإيديولـــوجيا الصهـــيونية، بـــدلالة نصوصها وبدلالة الوقـــائع التاريخية، ولم يَعُدْ في وسعنا اليوم أنْ نقول 'بدلالة 'الإجماع الدولي' بعد أنْ أبْطَلَتْ الامبراطورية الأمريكية قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي عَدَّ الصهيونية حركةً عنصريّة.
من منظورٍ فكريّ فإنّ هذه العبارة 'حق إسرائيل في الوجود' هي عبارة تافهة ومُبتذلَة مثل تفاهة وابتذال العبارة التالية: 'حقّ قاطرة درعا البخاريّة في الوجود'، أو عبارة 'حقّ جسرٍ خشبيٍّ ما في الوجود'. إنّ بقاء القاطرة البخارية كوسيلة نقل ليس مسألة حقّ من عَدَمِه، إنّها مسألة تطور علمي، فعندما تمّ اكتشاف وسائل أكثر فاعليَّة وجدوى من المُحرّك البخاري، كالمحرك الإنفجاري أو الكهربائي، صرنا لا نرى القاطرة البخاريّة سوى في المتاحف.
إنَّ الجدال حول بقاء أيّ شكل سياسي، كيان سياسي، لايجري في ميدان علم الحقوق، إنّه يجري في ميدان علم السياسة، وإنّ استمرار أيّ شكلٍ سياسي على قيد البقاء أو اندثاره يخضع لقوانين التطوُّر السياسي وليس لقوانين الحقوق، وبالتالي هو ليس مسألة حقٍّ من عدمه.
وإذْ نَفَيْنا صَواب معالجة استمرار 'الكيانات السياسيّة' في البقاء من ميدان الحقوق، سنقبَلُ، جدَلاً، تنزيل مفهوم الوجود من مستواه الفلسفي إلى مستوى السياسة بمعنى 'البقاء/الاستمرار في العمل ككيان سياسي' نقول للمُدَّعي: إنّ المُطالبة ببقاء واستمرار أيِّ شكلٍ سياسيِّ هو وجهة نظر، هو رأي لا أكثر، وهذا الرأي قد يكون خاطئاً وقد يكونُ صحيحاً، وبالتالي لايجوز أنْ يكونَ شرطاً مُسبَّقاً للحوار.
وبغضِّ النظر عن 'إسرائيل' وفهمنا لجوهرها ، فقد نشأت الدّولة السياسيَّة، أو الدولة القومية بمعناها الحديث، في سياقٍ تاريخيٍّ معيَّنْ، حيث اقتضتْ مصالح الرأسماليَّة الناشئة توحيد سوقها وحمايته. 'الدولة القوميَّة' هي مُعطى سياسي تاريخي جاءت به مصالح طبقة صاعدة، وقد تَسُوقُهُ إلى مُتحف الظواهر السياسية مصالحَ أُخرى، كما حصل مع القطار البخاري، أيْ إنَّه ليس مُعطىً خالداً.
وإذْ استبعدْنا بقاءَ أشكال الكيانات السياسية أو اندثارها من ميدان الحقوق، نؤكِّدُ على أنّ تلك الأشكال تنشأ وتندثر، وهذا مسارٌ تاريخي تُمْليه تطوُّراتٍ هي، كما أعتقد، بالأساس اقتصاديّة. ليس هناك كيانات سياسيّة قومية أكثر شهرةً من الدول القومية الأوروبية، وكما رأينا ونرى في العقدين الماضيين فإنّ أهم عناصر بقاء تلك 'الأشكال السياسيّة' تسيرُ في سياق الزوال. فبعد أنْ تمّ توحيد السوق وتوحيد النقد، أُطْلِقَتْ حريّة انتقال الأفراد ورؤوس الأموال... ماذا بقي من الكيانات السياسيّة الأوروبيّة؟ الفولوكلور؟!!!
ثانياً: الطلبُ مُنافٍ لأحدِ أهمِّ أُسُس الحوار الديمقراطي:
عندما يَطْلبُ إليَّ طرفٌ ما في حوارٍ أنْ أُقِرَّ مُسَبَّقاً، كشرطٍ للحوار، بصواب رأيٍ أو مَبْدَأ من آرائهِ أو مبادئهِ فإنَّه يُمْلي عليّ مُقدِّمات الحوار، وهذا يتناقض مع أولى بديهيات الحوار الديمقراطي وهو قُبول الآخر المختَلِف، الإقرار بحق الآخر في أنْ تكون له أيديولوجيا، منظومة قناعات، مختلفة عن منظومة قناعاتي. وبالتالي فإنّ المَنهاج القابع خلف مثل هذا الطلب، 'الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود'، سواءٌ كان المُحاورُ مُدرِكاً لأبعاد ما يقول أم لا، هو منهاجٌ إملائيّ/استبدادي. إنَّ المعنى الفعلي لِمَا يَطْلُبُ هو أنَّه يُريدُ إلْزامي بأنْ أتبنّى الركنَ الأساسيّ في الأيديولوجيا الصهيونية، أيّْ أنْ أتبنَّى الرؤية الصهيونية لحلِّ ما اصْطُلِحَ على تسميته 'بالمسألة اليهودية'، مع كلّ ما يترتب على ذلك من تَبِعات. وهذا تعاملٌ يتنافى مع الركن الأساسي في الحوار الديمقراطي: قُبول الآخر المُخْتَلِف. إذْ أنَّه إذا لم يَكُنْ هناك اختلاف تكونُ الرؤى متماثلة ولا يكون ثمّة داعٍ للحوار أصلاً.
لو أنّ المُحاور يطلبُ الإقرار بوجود 'إسرائيل' لما كان في الأمر مشكلة، وهو طلبٌ لاقيمة حواريّة له، فهو أمرٌ بدهيّ، علماً بأنْ الإقرار بوجود هذا الكيان أمرٌ يختلفُ عن الاعتراف السياسي به كدولة، فالكيان المَدعو 'إسرائيل' واقعٌ قائمٌ بغــضِّ النظرِ عن فهمنا لماهيَّته.
إنّ العبارة المذكــــورة هي 'سَلَطَة كلام' تنطوي على افتراضاتٍ مُسَبَّقة زائفة وإملائيّة وعلى الرغم من ذلك يجري توظيفها من قِِبَلْ صهاينة الإعلام والديبــــلوماسية الغربية بخبثٍ شديد. إنّ في إمكان المُحاور العربي أنْ يصمدَ في مواجهتهم وأنْ يقود الحوار قيادةً تَكْشِفُ الاستخدام الخاطئ والمُضَلِّلْ للغة، وهو كثيرٌ في الأدب السياسي الغربي، وبخاصَّة عندما يتعلَّقُ الأمر في شؤون المنطقة العربية والإسلاميّة.
' كاتب فلسطيني يقيم في كندا
14