منذ فترة ليست بالقصيرة، والدعوات تتوالى للإعداد لانتخابات رئاسية وتشريعية في فلسطين من خلال حكومة توافق وطني. وهذه الدعوات، هي بالطبع دعوات براقة، تستهوي الكثيرين داخليا وخارجيا، وتعكس التزام الأطراف بـ'الديمقراطية'، والاحتكام إلى الشعب الفلسطيني، والحرص على تجسيد خيار الشعب لقيادته ومسار قضيته. وبصرف النظر عن مراهنات كل طرف من الأطراف التي تدعو إلى الانتخابات، إلا أن هناك حقائق لا يمكن إغفالها، تجعل من الدعوة للانتخابات في هذه المرحلة لا تعدو الدخول في المجهول، وتمثل 'ماكياج' لتجميل الصورة الفلسطينية المتردية الناجمة عن الانقسام الفلسطيني العميق.
بداية
بداية، لا بد من التذكير بأن الانتخابات ما هي إلا صورة من صور الديمقراطية، ومظهر من مظاهرها، أو إن شئت قل، هي نتيجة لثقافة الديمقراطية. الانتخابات ليست هدفا بحد ذاتها، لأنها إذا جرت في أجواء مسمومة، أو في بيئة لا تحمل الثقافة الديمقراطية، فإنها ستكون وبالا على الشعوب والقوى السياسية على حد سواء. ومما لا شك فيه أن المراقب للوضع الفلسطيني الذي ساد خلال السنوات الثلاث السابقة يرى بما لا يدع مجالا للشك أن هناك خللا بنيويا في الثقافة الديمقراطية. وجوهر هذا الخلل هو عدم القبول بالآخر، وعدم توافر ثقافة التسامح بين المتنافسين، وبالتالي إغلاق الأبواب أمام من يفوز في الانتخابات من قبل الأطراف المتنافسة. لقد أكدت التجربة أنه ليس من السهل في الثقافة الفلسطينية التسليم بفوز الطرف المنافس من قبل الأطراف الأخرى، أيا كان هذا الطرف، وهو الأمر الذي يضع علامة استفهام كبيرة أمام الدعوات لإجراء انتخابات في الوضع الراهن.
الأمر الآخر، وهو مستلهم تحديدا من التجربة السابقة، أي انتخابات 2006، يتعلق بمصير من يفوز في الانتخابات من الأطراف غير المقبولة لدى إسرائيل على وجه الخصوص. فها هم النواب الذين فازوا في الانتخابات، وحتى أعضاء المجالس البلدية، يقبعون في السجون، وعلى رأسهم الدكتور عزيز الدويك، رئيس المجلس التشريعي، وأحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية، ومروان البرغوثي، القيادي البارز في حركة فتح، وغيرهم كثيرون. الديمقراطية الفلسطينية مشلولة بسبب اصطدام نتائج الانتخابات بالسياسة الإسرائيلية، الأمر الذي يجعل من مسألة الانتخابات مجرد وهم لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع في ظل أجواء مشحونة بالتوتر، وفي ظل احتلال لا يعبأ بحياة الإنسان، فضلا عن صناديق الاقتراع. وستبقى فكرة الانتخابات وهما ما لم يتم إيجاد حلول ناجعة لمثل هذه التحديات، والعمل على تذليل هذه العقبات الكأداء. فمن ذا الذي سيرشح نفسه، في ظل هكذا وضع، على الأقل في الضفة الغربية، في الانتخابات القادمة؟ وكيف يمكن ترجمة حرية الاختيار تحت سياسات الاحتلال المتمثلة في الضغوط والتهديد بالحصار والاعتقال وغير ذلك من جوانب العقوبات التي تعرض لها الشعب الفلسطيني بعد الانتخابات السابقة؟ المسألة الثالثة هي الرفض الذي واجهته نتائج انتخابات 2006 من قبل الأطراف المختلفة. صحيح أنه كان هناك اعتراف بنتائج الانتخابات، وإقرار بأنها انتخابات نزيهة، ولكن المشكلة هي ما ترتب على هذه الانتخابات من أوضاع داخلية معقدة، وحصار إسرائيلي، ورفض (غير معلن، ولكنه مفضوح) من قبل الدول العربية، فضلا عن الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية، وتساوق الاتحاد الأوروبي والعالمي مع هذه السياسات. وتأتي في السياق بالطبع اتهامات حماس للرئاسة الفلسطينية بعدم إعطائها الفرصة بممارسة مهامها كسلطة منتخبة، وبسحب كثير من الصلاحيات الحيوية للحكومة العاشرة. فلو تخيلنا أن تجربة انتخابات 2006 أعطيت الفرصة كاملة، ولم يمارس الحصار على الحكومة العاشرة وعلى الشعب الفلسطيني، فما الذي كان يمكن أن يحدث حينئذ؟ بالتأكيد ستكون تجربة ديمقراطية فريدة، وستكون عملية تداول السلطة سلسة في المراحل القادمة. هذا بالطبع محض افتراض.
اقصاء سياسي
المسألة الرابعة هي أن الانقسام الفلسطيني أدى إلى تعميق عملية الاستقطاب السياسي في غزة والضفة، الأمر الذي قطع الطريق على كل الأطراف لممارسة المشاركة السياسية بأبسط أشكالها، وكرس عملية الإقصاء السياسي. فلا حضور لفتح في غزة، ولا حضور لحماس في الضفة. فكيف يمكن إجراء انتخابات في ظل هكذا وضع؟ صحيح أن هناك دعوات لتشكيل حكومة وفاق وطني تمهد الأجواء لإجراء الانتخابات، ولكن كم من الوقت يتطلب الأمر لتوفير الأجواء المناسبة؟
إن العملية الديمقراطية، وإجراء الانتخابات، تتطلب أكثر من مجرد حضور سياسي للفصائل والأحزاب الفلسطينية. إنها تتطلب ثقافة وقبول لمبدأ خيار الشعب، واعتراف بمبدأ تداول السلطة، وتحتاج، هو الأهم من كل ذلك، إلى ممارسة الاختيار دون أية ضغوط من أي جهة، سواء كانت داخلية أو خارجية. كما تحتاج إلى ضمان لاحترام حقوق الإنسان في المناطق التي تجري فيها الانتخابات، وعدم التعرض للمواطن، والاحتكام إلى القانون والنظام فيما يتعلق بممارسة الطرف الفائز في الانتخابات لمهامه الدستورية. إن الديمقراطية هي اختيار حر للإنسان، وهو الأمر المفقود في الواقع الفلسطيني الذي ما فتئ يعيش تحت ضغوط بأشكال متعددة. فهل الواقع يشير إلى إمكانية ممارسة المواطن الفلسطيني للاختيار الحر؟ وما هي الضمانة التي يمكن توفيرها لاحترام حقوق الإنسان من جهة، ولتطبيق النظام والقانون من قبل السلطة 'الفائزة' في الانتخابات من جهة أخرى؟
وبعد الحرب المجنونة على غزة، تصاعدت أيضا نفس النداءات بضرورة إجراء انتخابات حرة ونزيهة، بعد تشكيل حكومة وفاق تمهد لتلك الانتخابات. ولكن السؤال يبقى نفسه، ماذا نفعل بالفيتو الأمريكي وفيتو الرباعية على أية حكومة لا تقبل بالاعتراف بإسرائيل؟ ماذا لو تكررت نتيجة انتخابات 2006؟ وكيف سيتعامل معها العرب وإسرائيل وأوروبا؟ وهل تكرار تلك النتيجة ستؤدي إلى مزيد من الانقسام الفلسطيني وتمزيق الصف الوطني؟
أسئلة كثيرة لا بد من معالجتها قبل الولوج إلى أية أحاديث عن الانتخابات، وقبل تكرار المأساة التي حدثت بعد انتخابات 2006.
لقد كتبت في مقال سابق اقتراحا لحل هذه المعضلة، وهي استبدال فكرة الانتخابات في المرحلة الحالية بـ'التوافق الوطني' على برنامج سياسي، وعلى حكومة ورئاسة، قبل الدخول في عملية انتخابات قد تكون ضربة جديدة للمشروع الوطني الفلسطيني. إن مسألة التوافق هي مفتاح الحل، من وجهة نظري، وهي التي يمكن أن تمهد الطريق لتهيئة الأجواء التي قد تستغرق سنوات، وليس عدة شهور، كما يقول، أو يتمنى، البعض. ويمكن القول أن التوافق هو شكل متطور من أشكال الديمقراطية، وخاصة في الواقع الفلسطيني الذي يتطلب بالفعل توافقا حول القضايا المصيرية والاستراتيجيات المتبعة لتحقيق الأهداف. ويمكن القول أيضا أن وثيقة الوفاق الوطني التي وقعت في العام 2006، تمثل إطارا عاما، وقاعدة مهمة، يمكن البناء عليها وتطويرها، شرط الالتزام التام بها من قبل جميع الأطراف لتحقيق هذا التوافق، ولتهيئة الأجواء لانتخابات يمكن إجراؤها إذا توفرت الشروط اللازمة لذلك في السنوات القادمة.
الانتخابات
من الضروري مصارحة الرأي العام، وعــــدم تضــــليله، بالقول أن الانتخابات هي مفتاح الحل. بل يجب توضيح مخاطر هذه الخطــــوة التي قد تكون مدمرة في ظل الواقع المعقد الذي يعيشه الشعب الفلسطيني في الضفـــــة وغزة. إن من يتحدث عن انتخابات في هذه المرحلة، أو حتى في المدى المنظور، لا يدرك الواقع في فلسطين، ومن الضروري البحث عن صيغ أخرى، كالتوافق الوطني، والتي من شأنها أن تجسد إرادة الشعب الفلسطيني وتطلعاته للخلاص من الاحــــتلال وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
كاتب فلسطيني
قسم الصحافة ـ جامعة النجاح الوطنية
16