هل كنا بحاجة الى اجراء انتخابات مجالس المحافظات في العراق المحتل لمعرفة نتيجتها؟ لا اظن ذلك. لقد جاءت النتيجة العامة بفوز ما يسمى بقائمة دولة القانون لصاحبها المالكي وانحسار قائمة شهيد المحراب لصاحبها الحكيم متماشية مع تغيرات الوضع السياسي وتوازنات القوى بين ابناء الائتلاف انفسهم من جهة وبينهم وبين الادارة الامريكية والحكومة الايرانية من جهة اخرى. وهي علاقة معقدة شهدت صعودا ونزولا في تفاصيلها، الا انها بقيت امينة للخصائص العامة.
ما اعنيه بالتفاصيل هو التهرؤ الذي اصاب وحدة قائمة الائتلاف التي كانت طاغية في اعوام الاحتلال الاولى وبحكم الاتفاق الاضطراري على وجوب توحيد الصفوف بمواجهة العدو. والعدو المعني هنا ليس قوات الاحتلال بل المقاومة العراقية التي اعتبروها عدوهم الاول مع اطلاق مختلف التسميات عليها من الارهابيين الى السنة والصداميين وبقايا النظام السابق ومع وقوف المقاومة في الجهة المعاكسة للائتلاف وخطوطه الحمراء المتسعة، حسب الاهواء، فيما يخص التعامل مع قوات الاحتلال الانكلو امريكي الصهيوني. الا ان عامل ضرورة التوحيد ضمن قائمة الائتلاف لم يعد ممكنا مع ازدياد نفوذ حزب على حساب آخر ونمو طبقة القطط السمان ضمن الحزبين نتيجة السباق الخيالي السريع للاختلاسات وتوزيع العقود الوهمية وشراء الذمم وتحويل الدولة العراقية الى هيكل عظمي لتسهيل مص عظامه. اما الخصائص العامة فأعني بها العلاقة ما بين احزاب قائمة الائتلاف واستراتيجية الادارة الامريكية من جهة والحكومة الايرانية من جهة اخرى. وهي علاقة لا يمكن النظر اليها بشكل منفصل او متواز بالضرورة بل متداخل ومتشابك تتحكم بها المصالح الخاصة لكل جهة. واهم نقطة يجب الالتفات اليها هي ان موقف حزبي الدعوة والمجلس الاعلى، على الرغم من التباين في اسباب وتوقيت تأسيس الحزبين، ومحاولة البعض اضفاء صفة 'العروبة' على احدهما و'الصفوية' على الآخر، مع رشهما بملح 'ولاية الفقيه' أو انعدامه، بقي موقفهما واحدا من المحتل الاجنبي، جوهره واحد هو الخنوع للمحتل والمراوحة يمينا ويسارا من اجل مواصلة السير على الطريق ذاته الذي شقه المحتل. بينما تحكمت في سياسة الادارة الامريكية وايران مصالحها القومية والوطنية في ابقاء العراق كبيدق للشد والجذب في موازنات القوى فيما بينهما.
وبينما غضت الادارة الامريكية الطرف، بداية، عن مؤشرات تصاعد نفوذ المجلس الاعلى، في وقت كانت فيه بغنى عن فتح العديد من الجبهات ضدها مع وجود مقاومة التيار الصدري، الا انها وما ان قدم لها المالكي، رئيس حزب الدعوة، ميليشيا الصدر، على طبق من فضة، حتى وجدت في رئيس الحزب الذي كانت على وشك التخلص منه في اواخر عام 2007، واستبداله بعميل اكثر نشاطا وهمة في خدمتها، الى اعادة النظر. فبدأت عملية صقل صورة رئيس الحزب ليصبح صوت 'الديمقراطية والانتخابات' حسب الخطاب السياسي الامريكي من جهة والقبضة الحديدية التي طالما تحدث الاسرائيليون والمحافظون الجدد بان العراق لن يستقر بدونها، من جهة ثانية. وبينما تم تنفيذ خطة الجنرال دافيد بترايوس في زيادة عدد القوات الأمريكية في العراق وتغيير اسلوب العمليات والاعتماد بدرجة كبيرة على القصف الجوي، ومحاصرة بغداد وتقسيمها الى 50 منطقة بجدران العزل الطائفي وتهجير السكان قسريا داخل وخارج العراق وازدياد حملات الاعتقال وقتل المواطنين الابرياء، وشن عمليات التصفية الطائفية من قبل ميليشيات وزارة الداخلية والدفاع وغيرها، ساهمت الادارة الامريكية في ضخ ملامح المالكي الرمادية ببعض الالوان وابرازه بشكل رامبو صغير بينما يتراجع الى موقعه الحقيقي كلما نزل عليه احد المسؤولين الامريكيين الكبار، ليملي عليه اوامر الخدمة والانصياع.
وبقيت امام ' مستشاري' المالكي، من امريكيين وعراقيين، مهمة تحويل بطاقة تصنيعه من رئيس حزب طائفي متعاون مع الاحتلال الى رئيس وزراء وطني اسلامي معتدل. ولم تكن المهمة صعبة، فكل المطلوب هو ايجاد عدو وهمي (وهو اختصاص امريكي من الدرجة الاولى) وابراز وتضخيم 'عدوانيته' ضد 'وطنية' المالكي بواسطة اجهزة الاعلام التضليلية المدفوعة الاجر بسخاء. فانطلق المالكي، عبر التصريحات وليس الافعال بطبيعة الحال، مبينا عدم رضاه عن الدستور ( الذي طالما دافع عنه بلسانه واسنانه)، مهتما بالعشائر العربية التي طالما قصف مدنها في ظل وزارته المجيدة، وموقعا الاتفاقية الامنية طويلة الأمد لشرعنة الاحتلال بعد تغيير اسمها الى اتفاقية جلاء قوات الاحتلال، ومطالبا باداء دور الممثل الاول في تمثيلية الصراع مع حزبي اقليم كردستان. حيث وقف بمواجهة بعض مطالب الحزبين القوميين الكرديين في وقت فسحت فيه الادارة الامريكية المجال بتسريب ونشر التقارير والتحليلات الصحافية عن الفساد المالي والاداري المستشري بشكل مخيف في اقليم كردستان . وفي الوقت الذي اختارت فيه الادارة الامريكية تقليص دعمها لقيادتي الحزبين فيما يخص الانفصال عن العراق، لتثبت لكل المتعاونين استنادا الى نظرية البراغماتية وتقاطع المصالح، وهي نقطة يجب ان ينتبه اليها حزب الدعوة اكثر من غيره، بان الادارة الامريكية، كما يعرف قادة الحزبين جيدا، ليست حليفا دائما بل مؤقتا ويعتمد على قبول الآخرين بسيادتها واستراتيجيتها الامبريالية في المنطقة عموما. ان امريكا، التي تمكنت من فرض وجودها على قلب بغداد بشكل اكبر سفارة أو الاصح اكبر مقر للاستخبارات الامريكية في العالم، ليست بحاجة الى قاعدة امريكية منعزلة ونائية في جبال كردستان، خاصة وان من الصعب، من الناحية اللوجستية، تزويدها بالمؤن والعتاد. ان امريكا بغنى عن بناء اسرائيل جديدة. لذلك ليس من المستغرب ان يؤكد رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، المرة تلو المرة، في الآونة الاخيرة، بأن استقرار العراق لن يكون عبر معاداة الأكراد وأنه لا يدعو إلى الانفصال. وستواصل الادارة الامريكية اتباع سياسة تلميع صورة المالكي 'الوطنية' مادام، مثل بقية الحكام العرب في المنطقة، يقدم خدماته 'المعتدلة' في تسهيل سيطرتهم على مصادر النفط وحماية أمن اسرائيل، وهما الهدفان الاستراتيجيان الاساسيان لغزو واحتلال العراق اللذين غالبا ما يتم السهو عنهما اثناء رصد محطات الاحتلال المختلفة والاستغراق في مناقشة التفاصيل.
ان الانتخابات، التي تشكل، اساسا، عرضا آخر من عروض سيرك الاحتلال وعملائه، خاصة بعد ان وقع كل المشاركين فيها بلا استثناء، تقريبا، على اتفاقية العبودية مع العدو، بالامكان النظر الى نتائجها المعروفة مسبقا، بانها مكافأة أولية لافضل من قدم الخدمات لها حتى الآن ووعد بمكافأة أكبر اثناء انتخابات ما يسمى بمجلس النواب مستقبلا. انها مفيدة، اعلاميا، للصورة الديمقراطية التي تريد امريكا الظهور بها في بلد محتل عسكريا وامنيا واقتصاديا وثقافيا، ولاعلاقة لها بالديمقراطية الحقيقية. وما كان الرئيس الامريكي الجديد سيسارع بابداء السرور وما كان مجلس الامن سيطلق الزغاريد، وما كان ممثل الجامعة العربية سيتبعهم في خطاهم كما يفعل السائر على الجليد خوف التزحلق، لولا ان الانتخابات ونتيجتها تتماشيان مع السياسة الامريكية. ان ما احاط الفترة السابقة للانتخابات واثناءها وما تلاها من تطبيل اعلامي وتزمير، وصرف ميزانية بلغت الملايين من الدولارات المسروقة من ابناء الشعب انفسهم، لم تنجح في خداع الشعب العراقي على الرغم من تعطشه الحقيقي للعدالة والسلام.
' كاتبة من العراق
91