قالت 'بي بي سي' الأسبوع الماضي ان استطلاع رأي أُجري في بريطانيا، وشمل ألفي شخص، كشف أن مشاهدة البريطانيين للبرامج الطبية التلفزيونية مثل 'ER' أو' casualty' تمنحهم الثقة بأنفسهم وبقدرتهم على إنعاش أشخاص يعانون من أمراض قلبية.
أذكّر من جديد أنني قادم من بلد لا يثق شعبه في مؤسساته وفي كل ما هو رسمي أو له علاقة بالدولة وأجهزتها، بمن في ذلك رجال الإطفاء ومستخدمو القطاع الطبي وسيارات الإسعاف. وخلاصة هذا الشعور أو هذه العلاقة أن هناك إحساسا بالعداء، ولو صامتا، بين المواطن وهذه الجهات الرسمية وشبه الرسمية.
لذا لا تنتهي في البلد النوادر و'النكت' عن رجال الإطفاء، وأنا على يقين أن لنسبة معتبرة من الجزائريين قصصا طريفة (محزنة في الحقيقة) مع سائقي ومستخدمي سيارات الإسعاف أثناء أدائهم مهامهم.
هذا واقع مؤسف سببه التلفزيون! ستسألون ما دخل التلفزيون هنا أيضا؟ سأجيب ببساطة: لأنه لم ولا يفعل شيئا من شأنه أن يحبب هؤلاء الذين يضحون بأوقاتهم ويغامرون بحياتهم في سبيل الآخرين.
عليّ أن أعترف بأنني كلما شاهدت برنامجا بريطانيا عن عمل الفرق الطبية ورجال الإطفاء والمسعفين والممرضين، راح ذهني الى ما عشته أو سمعته عن نظرائهم في بلادي.
أعترف أيضا بأنني سرعان ما أكتشف أن البريطانيين يحبون ويحترمون هؤلاء الناس بقدر ما نحتقرهم ونهينهم ولا نشجعهم نحن.
أعترف بأنني في هذا البلد تعلمت احترام هؤلاء الناس وتثمين عملهم، خصوصا وقد أُتيح لي التعامل معهم في ظروف وسياقات معينة.
أعترف أيضا (آخر اعتراف) بأنني كلما شاهدت برنامجا من هذا النوع في تلفزيون بريطاني سألت في قرارة نفسي ان هذا برنامج بسيط سهل لا يحتاج الى أموال طائلة ولا خيال خارق، فلماذا لا ينتجون في بلادي برامج مماثلة؟
ثم سرعان ما أتذكّر أن التلفزيون عندنا مختطف وأن القراصنة يرفضون إعادته لأصحابه، بل يرفضون حتى التفاوض، فأعود وأقفل باب الأمل.
هذا بلد يكافئ من يستحق المكافأة. ومن الذين يستحقون المكافأة المسعفون ورجال الإطفاء. وأحد سبل المكافأة ان تُخصص لهم برامج تلفزيونية مستمرة تثمّن عملهم، وأفلاما ومسلسلات يومية لا يفلت من مشاهدتها أحد، فإن فاتتك اليوم شاهدتها غدا، وإن تهربت غدا صادفتك الأسبوع المقبل أو الذي بعده.. وهكذا. مهما اختلف عنوان الحلقة أو مضمونها، فهي لا تخرج عن سياق احترام هؤلاء الناس وتعزيز ثقة العامة بهم من خلال ما تبرزه تلك البرامج والمسلسلات من عمل شاق وتضحيات وصبر ومغامرة بالحياة في سبيل الآخر، وأحيانا في سبيل حيوان.
والنتيجة أن علاقة حب صامتة تنشأ بين الناس (المشاهدين) وهذا الصنف من الموظفين. ويظهر هذا الحب وهاته الثقة في الأزمات وأوقات الحرج عندما تتهاطل اتصالات الاستغاثة على مراكز استقبال المكالمات الهاتفية بمراكز هذا النوع من الخدمات. لا يتردد الفرد هنا في الاتصال بهؤلاء الموظفين لمجرد إصابته بصداع أو رعاف، وهو على يقين من أنه سيلقى العناية والتوجيه المطلوبين، ولو عبر الهاتف. بينما يتردد الفرد عندنا في الاتصال بهم وهو يعاني سكرات الموت، لأن شيئا بداخله يهمس ان لن يأتوا أبدا أو سيصلون متأخرين.
لكن هذا الحب لم يولد بين عشية وضحاها، إنما هو ثمرة سنين من العمل المنظم والمدروس. وإذا كان من فضل، فهو للتلفزيون لأنه أداة التنفيذ.
لا أظنني سأجانب الصواب إذا قلت ان 'الجماعة' عندنا لديهم تلفزيون لا يعرفون ماذا يفعلون به. لذا يكاد يصيبك الذهول لما تشاهد من عبثية في التلفزيون تكشف عن قصر نظر وإفلاس فادح في الخيال.
إذا شئتم نوسع دائرة النقاش قليلا، فأقول ان العلاقة بين هذه الفئة وعموم الناس وما تعانيه من خلل هي مجرد مثال على إفلاس التلفزيون عندنا (وليست الجزائر استثناء). فهناك الفشل التلفزيوني في بقية تفاصيل وحياة المواطنين. انظروا مثلا عندما يتعلق الأمر بتوجيه أذواق الناس في الاستهلاك اليومي والموضة والغذاء: هنا تشاهد برامج حول ما هو متاح وفي متناول عموم الناس أو أغلبيتهم من مأكل وملبس، أي يوجَّه الناس نحو شراء ملابس موجودة في محلات عادية وبأسعار معقولة. هكذا يشتري المستهلك ما تسمح به ميزانيته وهو سعيد لأنه يشعر أنه مع الموضة، فتحافظ الدورة الاقتصادية على سيرورتها منتعشة، والكل مستفيد. أما (هناك) فعندما يقررون التطرق الى الاستهلاك، يتجهون فورا الى التباهي بألبسة (نسائية دائما) شديدة الأناقة وباهظة الثمن. بعض هذه الألبسة خاص بالأعراس والعرائس ولا يمكن أن تراها خارج سياقات الأعراس. وعموما هي منتوجات متشابهة، من نوع 'القفاطين' (جمع قفطان) ذات الأقمشة الغالية والمطرزة بالذهب والاكسسوارات الثمينة، تتكرر كلما قرر التلفزيون الخوض في الموضة.
قلّبت في ذاكرتي فلم أجد بها أنني شاهدت، عن الموضة والملبس، شيئا خارج القفطان والفرقاني وما شابههما.
والشيء نفسه ينسحب على المأكل، إذ نادرا ما ترى من برامج الأكل ما هو متاح لعامة الناس. أما الباقي فسمك نادر ولحوم باهظة الثمن وفواكه تخالها من ثمار الجنة بسبب ندرتها وغلاء أسعارها، وكأن الواقفين على هذه البرامج يربطون نجاحها بكمية ما تسيله من لعاب المشاهد وما تبعث لديه من شعور بالعجز!
كيف الخروج من هذه الحلقة المفرغة المستمرة منذ زمن؟ أعتقد أنه يجب، أولا، أن يهدي الله القراصنة فيقتنعوا بأن عليهم أن يضعوا نهاية لعملية اختطاف التلفزيون. بعدئذ، كل شيء ممكن ولا توجد مستحيلات.
شامبينيون!
قال زعيم 'الخوانجية' الجزائريين في برنامج تلفزيوني السبت ان من نتائج الأزمة المالية العالمية أن البنوك 'العاملة بالنظام الإسلامي تنمو كالفطر في الغرب'، ثم استعمل كلمة 'شامبينيون' ترجمة للفطر، ما يعني مع سبق الإصرار والاقتناع بما يقول.
تمنيت لو أن بين الصحافيين الحاضرين أحدا سأله أن يسمي ثلاثة بنوك (من التي نمت كالفطر في الغرب!) في ثلاث دول! لكن لا أحد فعل وتُرك الأمر كأنه حقيقة مطلقة يبتلعها عموم الجزائريين، خصوصا وأنها وردت على لسان 'بولحية' صاحب مكانة سياسية وفقهية.
على كلّ، لم يفت الوقت، وبإمكان الشيخ أبو جرة، الذي انتقل من الرقية الى السياسة فسكن دركها الأعلى، أن يسمي لنا اليوم بنكين وليس ثلاثة (يا سيدي بنكاً واحداً!). وإلا، اتّق الله في شعبك يا حاج وكفى تضليلا وتغليطا. تستغلون التلفزيون خدمة لأهدافكم السياسية، بصحتكم، لكن أن تستغلوه لنشر التجهيل والمعلومات غير الدقيقة، فلا.
توبة!
كتبت عدة مرات هنا كلاما أُخذ على انه سلبية وانتقاد لقناة 'ميدي1 سات' المغربية الفرنسية.
اليوم أكتب منوها بنوعية الأشرطة الوثائقية التي تبثها القناة. ليس هذا 'توبة' أو تراجعا مني، إنما تنويه الى أن هذه القناة حققت تطورا في ما يتعلق بنوعية الوثائقيات التي تختارها فأصبحت تنافس وثائقيات 'أرتي' الفرنسية الألمانية.
هذه كلمة حق رأيت أن لا بد منها.
ترددات دوزيم!
فقدتُ أثر قناة 'دوزيم' المغربية. هل من قارئ كريم أو قارئة كريمة يدلني على تردداتها الجديدة أو طريق ما لاسترجاعها. اكتشفت ان جهاز الاستقبال 'صامط' من غير 'دوزيم'، والله لا يضيّع أجر من أحسن عملا.
' كاتب من أسرة 'القدس العربي'
toufik@alquds.co.uk80