ليس هذا إعلانا تجاريا يدعو القراء العرب المقيمين في بريطانيا وبقية بلدان أوروبا إلى شراء جريدة الاندبندنت، ولو أنها أجدر الصحف البريطانية بأن يواظب العرب على قراءتها لأنها الصحيفة الوحيدة التي لا تهاب اللوبي الصهيوني ولا تتردد، منذ إطلاقها عام 1986، في فضح الكيان العنصري الإسرائيلي المارق وفي الجهر بحقائق سياسية وإنسانية صافعة لوجه العالم الغربي المنافق.
ويكفي الاندبندنت فخرا أن رئيس الوزراء السابق السيئ الذكر توني بلير قد اتهمها، مسميا إياها بالاسم، عندما وصف في أحد آخر خطاباته، قبل التنحي في منتصف 2007، وسائل الإعلام بـ'الوحوش الضارية' التي تجعل الحكم الديمقراطي في عصرنا مستحيلا، حسب زعمه، بسبب ميلها إلى 'الخلط بين الرأي والخبر'. وما ذاك في حقيقة الأمر إلا لأن الاندبندنت نغصت على بلير السنوات الأخيرة من حكمه المشؤوم، حيث ظلت له بالمرصاد منذ أن كذب على بلاده فأقحمها في العدوان على العراق.
لا، ليس هذا إعلانا يستهدف القراء. إنما المقصود بالعرب في العنوان هم رجال الأعمال والاستثمارات تحديدا. والمناسبة هي أن الغارديان قد نشرت قبل أيام مقالا بعنوان 'مذكرة إلى كارلوس: اشترِ الاندبندنت'. وكارلوس المقصود هو الملياردير المكسيكي ذو الأصل اللبناني كارلوس سليم حلو، الذي بدأ يهتم أخيرا بالاستثمار في الإعلام، حيث اشترى في أيلول (سبتمبر) الماضي أكثر من 6 بالمائة من أسهم شركة نيويورك تايمز، ثم منحها الأسبوع الماضي قرضا بـ250 مليون دولار لمساعدتها في مواجهة مصاعبها المالية البالغة وديونها التي تتجاوز مليار دولار. كما أنه يملك منذ مدة واحدا بالمائة من أسهم الشركة الناشرة للاندبندنت التي يملك أغلبية أسهمها، منذ 11 عاما، رجل الأعمال الإيرلندي أنثوني أورايلي.
صحيح أن قطاع الصحف في مختلف أنحاء العالم يعاني من الركود منذ بضعة أعوام بسبب التراجع الحاد في عوائد الإعلانات وتناقص أعداد القراء وتحول الإنترنت مصدرا أساسيا للمعلومات والترفيه خاصة لدى شرائح الشباب. وصحيح أن صحفا عريقة، مثل شيكاغو تريبيون، قد أعلنت الإفلاس بينما أعلنت صحف أخرى، مثل كريستيان ساينس مونيتر، إلغاء نسختها الورقية والاكتفاء بموقعها على الانترنت. وصحيح أيضا أن صحيفة بريطانية عريقة مثل لندن إيفننغ ستاندارد، التي يتجاوز عمرها 181 عاما، كانت ستعلن الإفلاس والإغلاق لو لا أن أنقذها الشهر الماضي المستثمر الروسي ألكسندر ليبديف الذي اشترى أكثر من 75 بالمائة من أسهمها مقابل جنيه استرليني واحد (!) في صفقة اهتزت لها ساحة الإعلام البريطاني.
كما أن من الصحيح أن الاندبندنت تتكبد منذ أعوام خسائر لا يقل معدلها السنوي عن عشرة ملايين جنيه، وأن ناشرها لم ينف هذه المرة الأنباء المتزايدة عن احتمال استعداده لعرضها للبيع، ولو أنه لم يكد يخلو أي عام طيلة العقدين الماضيين من شائعات عن قرب إغلاق الاندبندنت أو بيعها. على أن السبب الأساسي لكثرة هذه الشائعات لا يكمن في الوضع المالي للاندبندنت بقدر ما يكمن في ضيق الصحف النافذة (وكلها، باستثناء الغارديان، محافظة أو يمينية) بالاندبندنت وانزعاجها منها إما لاعتبارات مهنية تتعلق بنفَسها التجديدي الجريء في المعالجة الصحافية والإخراج الفني، أو لاعتبارات سياسية تتعلق بجسارتها في السباحة ضد التيار. بل إن الغارديان العريقة، إذ يعود تاريخ تأسيسها إلى عام 1821، هي من أكثر الجرائد ترويجا للأنباء المتكررة عن قرب موت الاندبندنت (رغم أنها 'أنباء موت مبالغ فيها'، حسب قولة مارك توين الشهيرة) وذلك لاعتبارات تجارية بحتة، حيث أن الجريدتين تتنافسان إجمالا على الشريحة ذاتها من القراء.
فهل يمكن أن يظهر من بين رجال الأعمال العرب أو مسؤولي الصناديق السيادية الخليجية، الذين قاموا في الأعوام القليلة الماضية باستثمارات هائلة في البلدان الغربية خاصة في قطاعات العقار والفنادق وكبريات الشركات، مستثمر يهتم بأن يضمن للاندبندنت من الاستقرار والرعاية مثل ما يضمنه الأمير خالد بن سلطان، على سبيل الحصر لا المثال (إذ لم يفعل هذا أحد من العرب سواه)، لجريدة 'الحياة' منذ صار ناشرها قبل أكثر من عقدين؟ هل مثل هذا ممكن، أو حتى قابل للتصور؟ معذرة عن سذاجة السؤال.
90