توابع محرقة غزة تتوالى.. تركت آثارها على معسكر 'الاعتدال العربي' الرافض للمقاومة والمؤيد للمشروع الغربي في التعامل مع القضية الفلسطينية. وجاءت زيادة العناد الرسمي وحماقة كثير من المسؤولين المصريين لتفتح أبواب التوتر والانشقاقات داخل معسكر 'الاعتدال' ذاته مع ميل السياسة السعودية إلى المناورة والتلويح بسحب 'المبادرة العربية' ردا على المحرقة، وقدمت مبادرتها على صعيد المصالحة العربية، لكي لا تبدو سافرة في عدائها مع المقاومة، ولتبعد عن نفسها شبهة التواطؤ، ووجدت تعزيزا من السلطات الكويتية أثناء مؤتمر القمة الاقتصادي. وقطعت السلطات المصرية وإْعلامها وصحافتها الطريق على إمكانية حدوث مثل هذا التطور، ونجح حسني مبارك في هذا. وأغلق باب المناورة أمام السعودية وأمام نفسه، وبدت السياسة السعودية أكثر ذكاء وفطنة.
مقارنة بالسياسة المصرية!!.. وقد يرى البعض أننا نعلق الأمل على معسكر 'الاعتدال'. وهذا غير صحيح.. والصحيح أننا نتخذ موقفا عمليا من أي بارقة أمل لأي تطور من هذا النوع. حتى لو كان ضئيلا، بجانب أن رصد أوضاع هذا المعسكر المستسلم من الأهمية بمكان للتعرف على ما فيه وما يطرأ عليه. وقد تفيد في تحييده بدل إضافته رصيدا ورديفا للمجهود السياسي والاقتصادي والعسكري الصهيو غربي. ومنذ أن شعرت الإدارة المصرية بإمكانية حدوث تطورات من هذا النوع أصيبت بالهياج وفقدان التوازن.. ووسعت من دائرة حربها وبدت وكأنها ضد الجميع، وبجانب موقفها الثابت المعادي لمعسكر 'الممانعة' شملت في حملتها معسكر 'الاعتدال'.. انبرى كتاب السلطة وحملة سيوفها في توجيه ضرباتهم الطائشة في أكثر من اتجاه..
اتجاه التهديد والابتزاز لفرض ما يعرف بـ'المبادرة المصرية' عنوة على كافة الأطراف.. المؤيدة للمقاومة والمعادية لها.. وقد ذكرنا في السابق أن المبادرة فرنسية المنشأ.. صهيونية المحتوى.. مصرية الغطاء.. ومع تعقيدات الوضع وبقاء المقاومة وصمود أهل غزة الأسطوري تخلى أصحاب المبادرة الحقيقيون عنها، وباشروا في اعتماد حلول أطلسية بعيدا عن المشاركات العربية أو الإقليمية.. واتجاه آخر أحل العدو البديل، وهو إيران، مكان العدو الأصيل، وهو الدولة الصهيونية ومشروعها الاستيطاني العنصري..وأضحت الإدارة المصرية لا ترى لها عدوا إلا إيران.. تواجهها بكل ما لديها من قدرة على التدليس والتشكيك والفتنة. والاتجاه الثالث يتخذ من التصدي للمقاومة الفلسطينية، خاصة حركة حماس. مبررا لاستخدام كل أساليب ووسائل الترهيب والترغيب والابتزاز.. ولا تكتفي برفض الاستجابة لأي ضغط سياسي أو قانوني أو إنساني أو أخلاقي لفتح معبر رفح، وتصر على إغلاقه وتدمير الأنفاق لخنق المقاومة وعقاب أهل غزة، وهذه الحماقات تحكم حركة الإدارة المصرية وتسيّر الإعلام والصحافة الحكومية، التي أخذت تعزف على وتر الالتباسات والشكوك المثارة حول انتصار المقاومة.. وحملها مسؤولية المحرقة، ومستوى الإفراط غير المسبوق في القوة العسكرية من جانب الدولة الصهيونية، والمقاومة لا تملك منها شيئا. واستخدام مثل هذا المقياس من طرف إدارة شاركت في الجريمة عنوان على فساده .. فالمقياس يستمد صدقه من غايته وشرعيته وسلامة مقصده، ولو جاء ذلك في مقام تقييم المقاومة المشروع لأدائها لكان ذلك عنوانا للسلامة والاستقامة في الأحكام. أما أن يكون هذا ترديدا وصدى لمقياس العدو وادعاءات جنرالاته فذلك يعكس درجة التوحد في النظرة والفكر والتوجه. ومن علامات فساد هذا المقياس هو اعتماده أساسا لنشر ثقافة الهزيمة وذريعة لتعميم التفريط.. ولم تكن هذه السابقة الأولى.. سبق و تعاملوا به مع مقاومة العدوان الثلاثي على مصر 1956 ، وكانت نتائجه فارقة في التاريخ الانساني كله. في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. تراجعت بسببه امبراطوريتان.. البريطانية والفرنسية، وتحولتا إلى دول من الدرجة الثانية. وانفجر على أثره المد الوطني والتحرري، على امتداد القارات الثلاث.. آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية.
لم ير المتواطئون مع العدوان.. من مصريين وعرب وأوروبيين، ثم فيما بعد العائدون من كهوف النسيان، بعد حرب 1973، لم يروا إلا الدمار الذي ألحقته الآلة العسكرية الصهيونية البريطانية الفرنسية.. لم تعنهم ما حققته المقاومة، وتحولها إلى 'فرض عين' قام به كل القادرين من المصريين والعرب، وكان أغلبهم لا يزال يرزح تحت وطأة الاحتلال الأجنبي.. عمت المظاهرات.. وتفجرت أنابيب النفط العابرة للأراضي السورية، واندلعت الاعتصامات اللبنانية، وغطت كثيرا من العواصم العالمية، بما فيها لندن عاصمة العدوان.. واستقبلت السفارات المصرية طوابير المتطوعين. يطلبون الانخراط في المقاومة والسفر إلى بورسعيد، ونشط العمل الفدائي الفلسطيني ضد القوات الغازية في غزة وسيناء، وزحفت كتائب التحرير نحو القناة ظهيرا وخط دفاع يحمي الخطوط الخلفية ويصون المنشآت الاستراتيجية والحيوية.. واضطر الاحتلال إلى الرحيل، وهكذا صُنعت ملحمة بورسعيد في الماضي القريب. و طمستها ثقافة الهزيمة وروح الاستسلام التي هيمنت منذ سبعينات القرن الماضي، وشهدت وضع 99 ' من أوراق المنطقة في يد الإدارة الأمريكية ، ثم سلمت إرادتها بالكامل للدولة الصهيونية في زمن حسني مبارك . إنه نفس النهج المعتمد حاليا ضد المقاومة الوطنية والإسلامية اللبنانية وحزب الله، وضد المقاومة العراقية، وهو نفسه المعتمد لدحر المقاومة الفلسطينية وتركيع حماس.
و لا يختلف اثنان على أن غزة ضربت مثلا أعلى في الصمود والتضحية والتحمل، وقدمت نموذجا يحتذى في احتضان المقاومة ومنحها العمق الكافي والغطاء اللازم، وحتى إذا لم يكن ذلك نصرا حاسما، في نظر البعض، فإنه مقدمة لنصر قادم .. وهذا النهج تمت استعارته من تراث المنظومة الغربية، خاصة في الحرب العالمية الثانية.. ولم يقتصر تطبيقه على المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي والإسلامي. فالتحالف الدولي ضد المحور النازي والفاشي في الحرب العالمية الثانية كان يضم الاتحاد السوفييتي، ومع ذلك مورس نفس النهج مع المقاومة السوفييتية الأسطورية.. صاحبة الفضل في النصر على النازية. بتضحياتها التي وصلت إلى 22 مليون رجل وإمرأة.. فقدوا حياتهم في الحرب.. وبسبب الاختلاف الأيديولوجي وتناقض المصالح تم إهمالهم عمدا ونسيانهم وسرقة النصر لحساب الحلف الأنكلو أمريكي.. انتظارا لفرصة سانحة انتهزها حلفاء الأمس ودمروا الإمبراطورية السوفييتية فيما بعد . ونفس الخلاف الأيديولوجي، المصاحب لسعي الغرب للاستحواذ على مصادر الطاقة في المنطقة العربية، وضمان الحماية الدائمة للدولة الصهيونية.. بسبب كل ذلك تختلق ذرائع الإبادة الدورية في الوطن العربي والعالم الإسلامي.. ومن المتوقع أن يأتي الدور على حلفاء اليوم ليحصلوا على ما حصل عليه الاتحاد السوفييتي السابق، ويتعرضون لما تعرض له الروس من إذلال ومهانة.
وقد وردني أثناء كتابة هذه السطور بيان صحافي يشيد بموقف اتحاد عمال النقل وتحالف العمال الوطني في جنوب افريقيا ويبعث إليهم بالتحية والعرفان بالجميل على قرار رفض تفريغ باخرة للدولة الصهيونية من المقرر وصولها يوم الأحد إلى ميناء ديربان الجنوب افريقي.. في نفس اللحظة التي أعلنت فيها الإدارة المصرية ' نجاحها' في تدمير ثلاثة عشر نفقا.. يعتمد عليها قطاع غزة في التزود بضرورات الحياة، وفي الانتقال من حالة السماح ا لمقيد لبعض الأفراد والهيئات بالمرور عبر معبر رفح. إلى المنع الكامل منذ الخميس.. ضغطا على المقاومة لتقبل بالشروط التي يحملها رئيس المخابرات العامة عمر سليمان..
والهدف هو تركيع المقاومة، وإذلال الفلسطينيين، وطعن القوى العربية المؤيدة لهم.. وهي حماقات بالغة بنت تصورها على إمكانية تركيع المقاومة، وكأنها تضحي بارواح أبنائها ودمائهم من أجل الركوع!. المقاومة تندلع لرفع الرؤوس المطأطئة، وهزيمة الغزاة والمحتلين، ومواجهة التخاذل والتواطؤ ، وتأكيد قدرة الفعل لدى المستضعفين.. وهي أساس وجود واستمرار كثير من الأمم والشعوب والجماعات.
وسر وجودها ذاته . لولاها ما استمرت فلسطين حاضرة في الوجدان العربي والإنساني على مدى عقود وأجيال.. المقاومة هي الخيار الناجع في مواجهة الغزو الأجنبي وتحدي المشروع الصهيوني.
حماقات الإدارة المصرية تضرب في كل اتجاه. وفي ذروة حملتها على العرب أعطت قطر النصيب الأكبر، ولم تعترف لها بأي فضل. ووصل الإسفاف حد وصف أحاديث حسني مبارك أمام مؤتمر الكويت وما بعده بالصفعات الموجهة إلى وجوه العرب وبالتأديب الذي يستحقونه!!.. هذه الشجاعة المتأخرة لم نرها تواجه الطيران الصهيوني وهو ينتهك أجواء مصر ويصب حممه على رؤوس الأشقاء في غزة.. أو اعترفت بالمساعدة القطرية في تطوير مرفق السكة الحديد وعلاج مشاكله. مع وصول الدفعة الأولى من الجرارات، التي تعاقدت عليها قطر، إلى ميناء الإسكندرية، الأسبوع الماضي.. قوبلت بالتجاهل.. لم يشر لها شتام ولا 'هجام' ولا متأمرك ولا 'مطبع'..
استقبلها وكيل شركة النقل التي قامت بالوساطة، وهذا الوكيل يشغل منصب وزير المواصلات في الحكومة المصرية ووصل التدني إلى درجة البخل بكلمة شكر واجبة لمن يقدم العون لأخيه، وكل ذنبه أنه احتضن قناة 'الجزيرة' ورعى 'قمة غزة ' في الدوحة . وهذا الموقف تم اتخاذه مع ما في الصفقة من نفع على الوسيط وشركائه من أهل الحكم والمال.. عمولات وعقود صيانة وتوريد قطع غيار، ومن المعروف أن قطر دفعت في هذه الصفقة 120 مليون دولار أمريكي .. أي أكثر من 600 مليون جنيه مصري .. تصرف لا يستغرب من حكم لديه وزير خارجية يتيه فخرا بنجاح رئيسه في إفشال 'قمة الدوحة'. ولأول مرة نجد أن هناك نشاطا دبلوماسيا يقوم على التخريب والفرقة والفتنة.. ويتيه فخرا بهذا العمل المشين.. وأبلغ رد على مثل هذه الحماقات هو فتح ملف المساعدات العربية لمصر. لقد طفح الكيل، ومن المهم أن تعلم الأجيال الجديدة وتعرف الحقائق المحجوبة عنها.. ففي هذا دفاع عن شرف مصر وكرامة شعبها، لكي لا يظهر أمام أشقائه العرب وأمام العالم ناكرا للجميل، أو فاقدا للمروءة.. لا سمح الله..
والدرس المستفاد من كل هذا هو أن الحماقة في السياسة وغيرها تجلب من المشاكل والعار ما يسيء إلى القيم النبيلة والسلوك القويم، ولذا صدق الشاعر حين قال: لكل داء دواء يستطب به.. إلا الحماقة أعيت من يداويها.
' كاتب من مصر يقيم في لندن
92