الا يقرأ (مثقفو) الاحتلال العراقيون الوقائع خطأ، بل أن وظيفتهم التي جندوا من أجلها تحتم عليهم أن يقفوا في الموقع الآخر، الموقع المناقض للحقيقة. ذلك الموقع الذي يفتقدون من خلاله إلى أصغر عناصر الحس الإنساني الذي يصل بينهم وبين الآخرين. فهم مجرد مفاصل صغيرة في ماكنة الكذب والدجل والتزوير الإعلامي التي اخترعتها آلهة العصور الحديثة. لذلك فان مواقفهم البعيدة عن كل فطرة إنسانية، تلك المواقف التي تخرجهم من قائمة الخليقة السوية لم تعد تفاجئ أحدا. مع ذلك فإن تلك الواقعة تظل تخدش براءة وطهر وشرف وحياء وكرامة الوجود الإنساني. كان السياب يتساءل بعفة 'أيخون إنسان بلاده؟'. مثقفو الاحتلال خرجوا بالخيانة من نطاقها الوطني ليذهبوا بأفعالهم الفاجرة إلى مفهوم الخيانة المطلقة.
هم اليوم خونة لكل قيمة من شأنها أن تضع الإنسان في موضعه الحقيقي: الوريث الذي يعني وجوده الرفعة والكرامة والعقل والعلو والجمال والشوق إلى اختراق الآفاق برأس مرفوعة. خيانة الإنسان هذه هي مزيج من مجموعة هائلة من الخيانات، الصغيرة والكبيرة، العابرة والمستديمة. وفي حالة (مثقفي) الاحتلال العراقيين فان انحرافهم بدأ بخيانة الثقافة، الموقع الذي يشهد حراكهم التآمري المسعور. ذلك الحراك الذي كان من الممكن أن يكون مضببا بالشبهات لولا أنهم يعلنون في كل ما يصدر عنهم عن عدائهم القبيح للثقافة فعل حياة. وهو فعل لا يتعلق بالنتاج الأدبي أو الفني، بقدر ما يعني استخراج أسلوب عيش رفيع المستوى من ذلك الأثر الذي يتخطى وجوده. أبواق الأحتلال وقد تجمهروا وراء أسيادهم لا يرون من الحقيقة سوى الجزء الواقعي، الذي يعتقدون أنه يمدهم بمصل الحياة: الأحتلال الأمريكي في العراق صار خشبة خلاصهم التي ما فتئوا يتشبثون بها والآن جاء دور جيش الصهاينة ليصنع من خلال الإبادة الجماعية في غزة معادلة لإعتدال منافق: حق القوة في أن تفرض قيمها المنحطة. ليس غريبا على من أن أستقوى من قبل بخيانته أن يظهر اعجابه بخيانة القوة لمبادئها. فالقوة هي الأخرى يمكن الانحراف بها لتكون مظلة للجريمة والإبادة الجماعية وتدمير حق الإنسان في العيش. وهذا ما يحدث في العراق تماما وما يحدث الآن في غزة.
2
فوجئ البعض بمقالة نشرها موقع (ايلاف) الالكتروني يحث كاتبها فيها الصهاينة على القيام بمزيد من أعمال الإبادة في حق سكان غزة وعلى الإستمرار في الجريمة المنظمة، في الوقت الذي كانت فيه شعوب في مختلف أنحاء الأرض قد خرجت إلى الشوارع وهي تندد بالجريمة الرهيبة، مذعورة بحجم تلك الجريمة المأساوي. الكاتب العراقي المقيم لاجئا في أمريكا لم ير من غزة غير حركة حماس التي أدعى أنه يكرهها ولذلك فإنه يجد أن الصهاينة انما يفعلون خيرا للبشرية حين يشطبون تلك الحركة من الوجود . لم ير ذلك الكاتب صور الخراب التي نشطت الشاشات في بثها، وهي صور تكشف عن أن حجم الجريمة هو أشبه بحرق غابة رغبة في التخلص من شجرة لم يتم التعرف عليها بعد.
يقول الكاتب: (لو نظرنا الى العمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش الاسرائيلي من زاوية خدمتها لسمعة العرب والمسلمين في تأديب عصابة من عملاء ايران وانقاذ الشعب الفلسطيني من شرورها... سنجد ان ما يقوم به الجيش الاسرائيلي هو عمل جيد وايجابي ويجب ان يلاقي التأييد والترحيب من قبل الدول العربية والاسلامية، فعملاء ايران يجب سحقهم والقضاء عليهم ومعاقبتهم على خيانتهم لوطنهم وكي يكونوا عبرة لمن تسول له نفسه التعامل مع ايران وطعن مصالح وطنه وأمته العربية). يستعمل الكاتب هنا كل الأدوات الجاهزة التي وضعت بين يديه. وهي الأدوات عينها التي استعملت في تبرير غزو العراق والدفاع عن كل ما جلبه ذلك الغزو من كوارث، يبدو أن الخلاص منها لن يكون ممكنا في المستقبل القريب. نحن شعب مبتلى بأنظمتنا الديكتاتورية وعلينا ان نقف مرحبين بمن يخلصنا من تلك الأنظمة. أما ما يحدث أثناء وبعد ذلك الخلاص فعلينا أن لا نناقشه. الصهاينة يسعون الآن إلى تخليص الشعب الفلسطيني من حركة حماس مثلما فعلت أمريكا حين خلصت العراقيين من حكم صدام. على ضحايا غزة أن يشكروا الصهاينة وإلا فانهم سيكونون ناكري جميل مثل العراقيين الذين أنتجوا ذلك الزيدي، الصحفي غيرالحضاري، الرجل الذي خان مهنته قبل كل شيء. كان عليه أن يتذكر أنه صحفي ولا يستجيب لعاطفته مواطنا عراقيا عبث المحتلون بوطنه حتى أحالوه رمادا. علينا أن نتحلى بشيء من الأخلاق. أما الامريكيون والصهاينة فهم في حل من كل أخلاق.
3
(انني كعراقي وعربي ومسلم شيعي أتحرق شوقاً لقيام الجيش الاسرائيلي بتوجيه ضربة قاصمة اخرى الى عملاء ايران في لبنان وتأديبهم وكسر غرورهم وانقاذ الشعب اللبناني من شرورهم، اذ ان الشعب اللبناني اليوم كله رهينة بيد عملاء ايران الذي يهددونه بالبطش وقوة السلاح، ولابد لإسرائيل من معاقبة هؤلاء العملاء وسحقهم وتطهير المنطقة من رجسهم). هذه الجمل لا يتفوه بها معتوه. بل هي تشير إلى درجة جديدة انتقل إليها العملاء في تطبيع أحوالهم من أجل خدمة أسيادهم. ذلك العراق الذي لا يزال عصيا على المحتل، لا يزال يوجعهم. العراق الذي دأبوا على تشويه وجهه العربي باسم الطائفية لا يزال يسبب لهم الهلع. شيعيته العربية هي ما تقلقهم فعلا. قبل أسابيع التقيت شاعرا عربيا صار من سنوات ينصب نفسه الشاعر الأول بعد غياب جيل الشعراء المكرسين. ذلك الشاعر أوقف النظر في عيني هلعا حين تضمن حديثه اعجابه بالسيستاني (الخرافة الفارسية المزكاة أمريكيا). كنت أرى في حديثه فشل الحداثة كلها. هي ذي الحداثة تخون مفهومها. الحرية ليست من حقنا. ان تكون سيستانيا بمباركة أمريكا غير أن تكون حماسويا وهو ما يكرهه الصهاينة. العراق غير فلسطين. الطائفية هي الأخرى صارت على المزاج. تغليب الطائفية على المواطنة هي واحدة من أهم أفكار ثقافة الاحتلال. الشاعر ذاك كان يفكر بلاوعيه الطائفي. علينا أن نعترف أنه لن يكون في إمكان مذابح غزة أن توقظ الحياة في ضمير ميت. لقد كشف احتضان سلطة الاحتلال في العراق للأحزاب الدينية والشيوعيين تحت مظلة واحدة عن واحدة من أكثر حلقات الخيانة انحطاطا. لقد عثر المحتل على كلمة السر: ليس لدى الشيوعيين العراقيين ولا لمنتسبي الأحزاب الدينية في العراق (وهي مؤسسات أيرانية) فكرة عن الوطن، أما حماس فإنها تفكر بفلسطين. ليس لديها خيار آخر. وهو أمر مزعج، بل أنه أمر يدعو الى التشاؤم. هل يفكر الصهاينة بعراق آخر؟ لم لا. اختفى كنعان مكية بعد أن بكى على الشاشات بغنج ضياع حلمه (مثلما هو حال أحمد الجلبي)، ولكن هناك الآن من يرث مكانه. بالنسبة لهؤلاء الورثة المنغمسين في لذائذ خياناتهم فان البرابرة هم الحل الأمثل. لا لأنهم عثروا على ذلك الحل بعبقرية رؤاهم، بل لأن البرابرة أنفسهم فرضوا على خدمهم التبشير بهذا الحل. أليس مضحكا أن يقال في الأخبار: عرقنة الصومال. ومع ذلك فان الأخبار أوحت بأن الصوماليين يخشون العرقنة. هناك انشاء من هذا النوع بالنسبة لغزة.
يمثل مثقفو الإحتلال بوصلة ممتازة لمعرفة الاهداف التي يسعى الاعداء اليها، بالرغم من أن ما يكتبونه لا يشكل إلا مرثيات بائسة ومبتذلة لأنفسهم مثلما يفعل (جيفارا العراق يوما ما) وهو يسعى إلى مواجهة حذاء منتظر الزيدي بدلا من الرئيس بوش. العراقي الذي كشف عن عورته في (ايلاف) هو جزء من جوقة عدمية استقوت بالمال والفساد على المبادئ ، بالقوة على الحقيقة. وهي جوقة تجهل أن الأوطان لا يمكن صناعتها افتراضيا، جوقة تريد أن يكون الوطن نوعا من الحل الافتراضي. حينها سيكون الجميع كائنات فضائية وسيكون علينا أن نبحث عن حل عن طريق الارقام المشفرة. ستكون الأوطان قد ضاعت ويكون القتلة قد فروا إلى مكان آخر.
شاعر وكاتب من العراق يقيم في السويد
qpt81