لا وقت للبكاء،
فالعلم الذي تنكسينه.. على سرادق العزاء
منكس على الشاطئ الآخر
والأبناء..
يستشهدون كي يقيموه .. على 'تبة'.
هل من علاقة بين موت الروائي الكبير الطيب صالح وبين موت جمال عبدالناصر، أجرت هذه الأسطر من قصيدة أمل دنقل على لساني؟
هل هو الرثاء لحال الثقافة العربية، التي لا 'وقت للتفكير' لدى أبنائها فحضرت قصيدة أمل بالتداعي؟
ربما علينا أن ننتبه إلى كوننا لا نمتلك رغبة أو وقتاً للتفكير في حال ثقافتنا؛ فالموت لا يريد أن يحصل على عطلة، منذ الرحيل الفاجع لمحمود درويش إلى اليوم.
يعمل الموت معوله بالتبادل في شباب وشيوخ الأدب.
يموت محمود أمين العالم في القاهرة، وبعد يومين يوسف أبو رية ليختتم عبدالعظيم أنيس في الأسبوع ذاته فقرة القاهرة. وسرعان ما يستأنف الموت عمله في بيروت ببسام حجار، وبفارق يوم واحد يتبعه الطيب صالح في لندن.
وهكذا فإن صفحات الثقافة وأقلام الأحياء ترتحل من معزى لمعزى، ومن حزن لحزن، من دون وقت للتفكير في الحالة الثقافية العربية، التي تتسم بنقيصتين تكفي إحداهما لوضع ثقافتنا في ذيل ثقافات الأمم الحية.
النقيصة الأولى هي الطبيعة الموسمية للثقافة العربية؛ موسم الموت تحديداً؛ فعادة ما يأخذ الكاتب أو الشاعر أو المفكر حقه كاملاً في اللحظة التي لا يكون بمقدوره أن يفرح، وكأن المثقف العربي الجيد هو المثقف الميت.
والأسوأ من هذا أن تتجاوز المراثي قيمة الميت، لأنها في مثل تلك الحالات تعطي إشارة للأحياء، بأن ثقافتنا لا تحتمل فكرة الحساب العادل، وأن بوسع أي مثقف أن يلعب ويتحامق على هواه، إذا كان عبيد يتساوى مع زيد في النهاية.
والطيب صالح لا هذا ولا ذاك؛ فلا هو من الكتاب المغبونين في حياتهم ولا هو صاحب ذكر سيئ، لكنه في موته لن يهرب من قانون الموت في ثقافتنا، حيث تكون مراثي يوم الرحيل حفلاً ختامياً، أو بلغة الموالد في مصر 'الليلة الكبيرة' التي سيختفي بعدها ذكر المبدع والمفكر، لأن النقد والكتابة جميعاً مشغولون في سرادق جديد.
هذه الانقطاعات التي يصنعها الموت، هي التي تصنع موسمية الثقافة العربية، وتحرمنا من التراكم المطلوب من خلال استمرار السابق في اللاحق. وإذا لم يكن الأمر محسوساً في مجال الإبداع بالقدر الكافي، فهو محسوس إلى حد الإزعاج في مجال الفكر، حيث لا تيارات أو مدارس جديدة تولد من رحم المدارس السابقة عليها، مثلما يحدث في الفكر الغربي، بل إعادة دائمة لأسئلة البدايات بين كل انقطاع وانقطاع.
النقيصة الثانية التي تعانيها ثقافتنا، هي مأزق الحصص، في تعميم غريب لأسوأ عيوب السياسة اللبنانية.
وهنا يجب أن يكون موت الطيب صالح مناسبة لذم المحاصصة الوطنية في الثقافة العربية التي تؤذي المستقبل بأكثر مما تفعل محاصصة الطوائف في مجال السياسة.
كتب الطيب صالح عدداً من الأعمال يحصى على أصابع 'يد' واحدة، لكن ما تركه لن يتم تجاوزه.
أعطى ما عنده في نحو عقد واحد من الزمان (إذا كنا نتحدث عن الرواية والقصة) وعلى الرغم من توقفه عقوداً، إلا أنه ظل وجهاً مرغوباً في كل المنتديات الثقافية، ولم ينصرف النقد عن أعماله، وتوالت طبعات رواية واحدة على الأقل هي 'موسم الهجرة إلى الشمال'.
وكان هذا التوقف، فرصة للطيب صالح لكي يرى بعينيه نجاح إبداعه في امتحان الزمن، بعكس من يرحلون وسط السباق، من دون أن يتركوا بإضافاتهم المتلاحقة فرصة للمتلقي لاختبار أعمالهم أمام سؤال البقاء.
كل هذا جميل، والأجمل منه هو الطيب صالح نفسه الذي يملك حساسية كاتب حقيقي، عرف كيف ينصرف عن الكتابة إلى الحياة، عندما لم يجد لديه ما يستدعي البقاء، وهذه فضيلة لا تتحقق للكثيرين من أبناء جيله المتشبثين بمقاعدهم من دون إضافة تبرر شغل الموقع أو 'العين'.
لكن السيئ في الأمر هو ثقافة الحصص، التي تصالحت على صرف حصة هذا البلد أو ذاك لمبدع واحد. عنوانه مسجل لدى موجهي دعوات المؤتمرات، وكتبه يقرؤها نقاد الكتابة والتحكيم، وطبعاته تتلاحق بفضل غيرة الناشرين.
ومنذ ظهور الطيب صالح المدوي، صار هناك اتفاق صامت على صرف حصة السودان في الإبداع الروائي للطيب صالح. وهكذا بدا الطيب كما لو كان نخلة وحيدة على جدول يروي أرضاً لا تنبت إلا الحشائش.
وهذا غير حسن، حتى بحق الطيب ذاته، إذ يبدو عقيماً، لم تنبثق من أصله فسيلة، ولم تفلت من عراجينه نواة تنبت نخلة جديدة.
والحقيقة ليست هكذا، لأن في السودان كتاباً، بذهني في هذه اللحظة منهم أمير تاج السر، بشرى الفاضل وحمد المك. هؤلاء وغيرهم من كهول وشباب الكتاب يستشهدون كي يرفعوا علم الكتابة السودانية على تبة.
a