في قرى جبال الأبَنين الإيطالية ، حيث أقمتُ ما يقاربُ الشهرَ ( مُعْظَم أكتوبر2008 هذا ) ، كنتُ مستغرقاً الاستغراقَ كلّه ، في ما حولي ، و في ما ينعكسُ ممّا حولي على ما في دواخلي. لقد أردتُ أن أُعطيَ المكانَ حقّه ما دامَ هذا المكانُ متاحاً.هل من غرابةٍ في هذا الأمرِ؟ ليس من غرابةٍ لو كنتُ في أرضي الأولى ، مع المشهد الأوّل. لكني منذ أواسط الستينياتِ كنتُ : بعيداً عن السماء الأولى ...
وما زلتُ .
إذاً أين المكانُ ؟
ليس من مكانٍ ، إنْ كان الأمرُ محدداً بالجغرافيا.
السماء الأولى إيّاها كانت ممنوعةً أو شِبْــهَ ممنوعةٍ. أتذكّرُ أنني أردتُ زيارة أبو الخصيب مودِّعاً وداعاً أخيراً ، نهايةَ
السبعينيات.استقللتُ سيارة أجرةٍ ، وبلغتُ المكانَ ، مقهىً عند مرآب السيارات. طلبتُ شاياً. لم أُتْمِمْ شُربَه. كان شرطيٌّ يقف بمواجهتي يسألُني لِمَ أنا هنا. ماذا أفعلُ في المكان. نصحَني بالعودة من حيث أتيتُ. وهذا ما حصلَ.
هل كان بإمكاني التأمُّلُ بأمواهِ دجلةَ؟
لم أعرف الفراتَ إلاّ حينَ سبحتُ في الرّقّةِ بأعالي سوريّا ، متنعِّــماً بمائه ، خيرِ ماءٍ .
سألتُ طالب عبد العزيز ، الشاعر ، مؤخراً ، عن مدرسة المحمودية بأبي الخصيب حيث أتممتُ الإبتدائية. قالَ: هُدِمَتْ.
إذاً ، أين المكانُ ؟
والآن؟
إنْ كانت أسبابُ الذكرى مُـنْــبَـتّـةً ، فعلى أيّ أرضٍ تتأسّسُ الذاكرةُ؟
العراقُ كان مُغَيَّباً عني.
وهو الآنَ ممعنٌ في الغياب.
لقد استولى عليه آخَرُ ثانٍ أو ثالثٌ بعد آخرَ ســالِفٍ.
هذا الآخَرُ سيظلُّ مستولياً ، مُطْلقَ الزمانِ. والسببُ بسيطٌ : إنه امبراطوريةٌ صناعيةٌ ، وليسَ شخصاً.
العراقُ مُسِـخَ مســتعمَرةً .
هل أعتبرُ الأرضَ المغصوبةَ وطناً ؟
إنْ كانت الصلاةُ نفسُها لاتجوزُ في أرضٍ مغصوبةٍ ، فكيفَ الـخَـلْقُ ؟
أعليَّ أن أنتظرَ مُطْلَقَ الزمانِ ، ابتغاءَ المكانِ ؟
جســدي ، الواهنُ مع ماراثونِ العذابِ المديدِ ، لن يفعلَ ذلكَ حُكْماً.
إذاً ، أين المكانُ ؟
'''
ببساطةِ مَنْ يفتحُ عينيهِ ، بعد مطرٍ ، ليرى الشمسَ ساطعةً ، تُمْــكِــنُـني الإنتباهةُ إلى أن الوطنَ لم يَـعُــدْ قائماً ، أمامي ، أنا ، في الأقلّ.
حتى ألوانُ الطفولةِ ، البهيّةُ بأفوافِها ، نَصُـلَتْ وشحبَتْ.
لقد ذهبَ الوطنُ . استولى عليه الآخَرُ المدجّجُ.
ذهبَ الوطنُ.
اســتراحَ منّا ، واسترحْــنــا منه !
'''
هل أجريتُ الذهابَ مُجْرى الـفُـجاءةِ ؟
لا أحسبُكَ تنسى أن سيرورةَ الأمرِ اســتغرقتْ نحواً من خمسين عاماً !
'''
أكتبُ ، والساعةُ تجاوزتْ ، قليلاً ، الثالثةَ فجراً. بقايا المطرِ النّـزْرِ شــرعتْ تغدو صقيعاً خفيفاً. لا صوتَ. النقرُ على لوحة المفاتيحِ أسمعُهُ عنيفاً شيئا ما.صديقتي ذهبتْ تزورُ أهلَها في مرفأ صيادي سمكٍ قديمٍ.الوحدةُ تسحرُني. منزلي دافئ.أمسِ ، في المساءِ المبكِّرِ رأيتُ قنفذاً يطوفُ. لم يُجْفل القنفذُ. ليس من دِيَكــةٍ في فجرِ الضاحيةِ.سيمون بوليفار
رحلَ فجراً ، مع جنودِهِ القليلين ، عن سان دييغو دي بوغوتا ( كولومبيا ) حين لم يسمعْ صلاةَ دِيكةِ الفجرِ. قال سيمون بوليفار لجنوده : لنرحلْ من هنا. إنها قريةُ كُـفّــارٍ!
'''
مستقرٌّ في مُـنْـــتبَــذي هذا استقرارَ دوحةِ التوتِ.
دِيَكةٌ أو لا دِيَكــةٌ !
هل تقودُ نُعْمى الاستقرارِ إلى مدخلٍ معيَّنٍ ؟
نعم . إنها تؤكدُ أمرَينِ : ذهابَ الوطنِ وذهابَ المنفى في آنٍ.
لكنْ كيفَ أقولُ بذهابِ المنفى وأنا أحِلُّ خارجَ أرضِ المشهدِ الأوّلِ ؟
التساؤلُ معقولٌ لو لم أكُنْ انتهَيتُ ، روحاً وجسداً ، من وطأةِ تلك الأرضِ التي لن أقولَ عنها أبداً :
بنفسيَ تلكَ الأرضَ . ما أطْيَبَ الـرُّبى !
وما أحسنَ المصطافَ والـمُـتَـرَبَّعا ...
'''
أيّ مشهدٍ أوّلَ هذا الذي يتغنّى به رونالد بارْت ؟
مبارَكٌ له ، التغنِّي بفرنسا الـحُرّةِ ، التغَنّي بأرضه ، ماءً وشجراً.
أمّا أنا فلم يكنْ لي من أرض المشهدِ الأول سوى السجنِ والانتهاك والاحتقار وســوءِ القولِ والفِعل.
بل لم يَنْجُ وجهي من بصاقِ أهلِها البذيءِ ، حتى وأنا على هذه الـمَـبْـعــدةِ .
أيُّ مَشهدٍ أوّلَ هذا ؟