أعتذر من القراء الذين أخبرتهم في المرة الماضية بأن الزميل غسان بن جدو ترك معبر رفح بعد طول إنتظار وعاد أدراجه إلى مكتبه في بيروت. فحين سطَّرت كلماتي لم أكن قد سمعت أو شاهدت إعلان الجزيرة عن 'حوار مفتوح' من داخل غزّة. كما كانت قد فاتتني الحلقة السابقة التي سجلها بن جدو على معبر رفح مع العالقين والمنتظرين والممنوعين من الدخول إلى غزّة كما حاله وزميله أحمد منصور. وفي تلك الحلقة التي شاهدتها لاحقاً كانت خاتمة بن جدو من على البحر، الذي تختلط وتتمازج مياهه الفلسطينية بمياهه المصرية بكل حب وحتى عشق يشبه عشق الشيخ إمام لفلسطين. وقف هناك وناجى البحر بما يشبه القسم بدخول غزّة مهما كانت الصعاب. وقد دخلها من غير البحر كما تبين لاحقاً. فهنيئا له تقبيله لأرض فلسطين والركوع على ترابها.
بعد اللحظة العاطفية الطبيعية لكل مواطن عربي في لقائه مع تراب فلسطين بدأت الحكاية. فالزميل بن جدو يقول 'جئنا من حيث جئنا وفي نهاية الأمر دخلنا غزّة'. فهو فاجأنا من قلب غزّة كما كان يفاجئنا بالكثير من الإطلالات الجريئة خلال عدوان تموز على لبنان. كذلك فاجأنا بدخوله الأنفاق التي أقامتها المقاومة في جنوب لبنان قبل غيره من الصحافيين. في بداية دخوله إلى فلسطين أعطى بن جدو فسحة لنفسه في التحدث مع مرافقه والتعرف ولو ليلاً إلى الأمكنة التي يسير فيها. ومالح الفلسطينيين بتذوق حبة من التوت الأرضي الذي نعرفه بالفريز. ونهاراً وقف حيث إستشهد الشيخ أحمد ياسين قريباً من منزله، وجال على الدمار القائم في كل مكان، فذكرنا بحال الضاحية الجنوبية في لبنان. وكان اللقاء المحوري لحلقته مع كتائب القسام في الهواء الطلق.
في هذا اللقاء إستند زميلنا إلى جذع شجرة وترك لحلقته تأخذ مجراها دون تدخل كبير. طلب تفسيراً للإستشهادي فإختصر القساميون الإجابة 'بالعملية العسكرية التي يكون فيها حظ النجاة بنسبة واحد بالمائة'. وقد نجا العديد من الإستشهاديين وهذا ما أسماه المقاومون 'إكرامات إلهية'. مع هؤلاء المقاومين المرابطين والمتأهبين لكل طارىء تعرفنا إلى حال المقاومة حين إشتداد العدوان على غزّة. إطلعنا على علاقتهم بالمواطنين والإتهامات التي وجهها إليهم المعتدون الصهاينة من أنهم يتخذونهم كدروع بشرية. سمعنا بأن المواطنين كانوا أكثر صموداً وأكثر طلباً للنصر على العدو من المقاومين. سمعنا من مقاوم تلقيه عبر اللاسلكي خبر إصابة أخيه المقاوم وقطع رجله صباحاً. وفي المساء جاءه أيضاً عبر اللاسلكي خبر إستشهاد شقيقه في موقع آخر. ذهب لتشييعه صباحاً وعاد إلى مسؤوليته. وحدثنا مقاوم عن تلقيه رسالة من والده العجوز يطلب حزاماً ناسفاً ليفجر نفسه بالعدو حين وصوله إلى منزله. وعن أم محمد التي كتبت لإبنها طالبة النصر أو الشهادة. تعرفنا إلى حياة المقاومين والغذاء الذي كانوا يتناولونه في حرب ضروس.
هي حلقة وضعتنا على تماس مباشر مع الذي سطروا بدمائهم فجراً جديداً لغزّة وبالتالي لفلسطين. ترك بن جدو المقاومين يتبادلون مكبر الصوت وتدخل في الأوقات المناسبة، لكنها في الأساس حلقة ليست بحاجة لإدارة يكفينا كمشاهدين التعرف إلى التفاصيل اليومية للمقاومين. وهي حلقة سيكون لها تابع كما علمنا ونحن بإنتظارها.
اما الوقوف على معبر رفح من الجهة المصرية فحكاية أخرى لا بل حكايات تروى على لسان المنتظرين، من أطباء ومهندسين مصريين وأعضاء مجلس الشعب المصري الذين يحملون المساعدات من الشعب المصري للشعب الفلسطيني. إلى جانب القطريين الذين دخلت مساعداتهم من دونهم وكان في ذلك فعل جيد. ولا ننسى أعضاء الوفد النروجيين والفرنسيين الذين جاؤوا لدخول غزّة وتوثيق الجرائم الإسرائيلية لرفعها إلى المحكمة الجنائية الدولية. ففي تلك الحلقة التي أعدها بن جدو من على معبر رفح وتحت الشمس الساطعة فضحت الإدعاءات بأن المعبر مفتوح. فكيف يكون المعبر مفتوحاً والمهندسون المصريون المختصون بما بعد الحروب يقفون بالإنتظار فيما زملاؤهم في غزة يحتاجون لخبراتهم كذلك المواطنين المشردين في الخيم.
لم ينس غسان بن جدو في تلك الحلقة ذكر جنسيات الصحافيين الذين سمح لهم الدخول إلى غزّة بمن فيهم المصريون، لكنه بقي وزميله أحمد منصور المصري الجنسية 'من المغضوب عليهم' ورفضت أوراقهم حتى للمرة السابعة. وفي هذه الحلقة كان أحمد منصور ضيفاً بإمتياز على زميله غسان، وفي بعض الأماكن لعب دور المساعد في تنسيق مشاهد الحلقة.
لقد صدق غسان بن جدو حين وصف معبر رفح بمعبر 'المعاناة والعذاب'، ولم يضف إلى جملته وصفاً سياسياً ضرورياً للواقع العربي الذي يحاصر العرب في غزّة، رغم كونه أكثر من مرة حاول تفسير المنع بأنه حفاظاً على السلامة من وضع أمني غير مستقر في غزة. وهذا طبعاً ما يفسر في خانة النوايا الطيبة.
غيفارا عاش
في حوالى الخمسين دقيقة إختصر وثائقي قناة 'الجزيرة' تحت عنوان 'غيفارا عاش' سيرة رجل يؤمن بالعدالة والحرية والإستقلال، رجل شغل العالم في مماته أكثر منه في حياته. إنه الرمز الثوري العالمي أرنستو تشي غيفارا. ولأنه رمز منتشر بقوة بين شباب العالم أجمع حاولت الرأسمالية التجارية تقزيمه ليصبح رمزاً تجارياً. هي بكل تأكيد نجحت في مهمتها تلك. لكن غيفارا في الحالتين الثورية الحقيقة والتجارية الإنتهازية بقي كما ذكر الوثائقي يقض مضاجع من إغتالوه من المخابرات الأمريكية. فغيفارا حقا 'عاش' بعد رحيله. وهو لا يزال القدوة رغم عمره الصغير الذي قضاه في النضال من أجل حرية الشعوب.
'غيفارا عاش' وثائقي ناجح حقاً. فهو بحث في كل التفاصيل التي تركها منذ رحيله كرمز حتى الآن.
بحث عن الإستشهاديين الفلسطينيين الذين حملوا إسمه. ووصل إلى الفلسطينيات والفلسطينيين الذين يحملون إسمه أيضاً، وكانت في طليعتهم الزميلة الشجاعة جيفارا البديري التي أكدت فخرها بهذا الإسم الذي أطلقه عليها والدها. ووصل الوثائقي الى الممثل المصري العالمي نور الشريف الذي تبرأ من الفيلم الأمريكي الذي مولته السي أي ايه والذي أدى بطولته وكان في محوره تشويهاً لصورة غيفارا الرمز والإنسان.
الشيخ إمام الذي غنى غيفارا بعد إستشهاده كان حاضراً في كافة مفاصل الفيلم وهو ما كان ضرورة حتمية، لأن غيفارا الرمز إرتبط في أذهان الشباب العرب ولا يزال في جزء منه طبعاً، من خلال الشيخ إمام. ولم يغب عن بال معدي هذا الوثائقي التأكيد على الكاريزما الشخصية لغيفارا البطل، وبالتالي التماهي مع تلك الكاريزما'التي كان يملكها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ومن بعده السيد حسن نصرالله.
'غيفارا عاش' وثائقي مشغول بحرفية ومعرفة سياسية لموقعه. غطى الجوانب الإنسانية من حياته والجوانب الثورية. وثائقي أعطى ذاك الرمز ما يستحقه كثائر ملأ الدنيا، فقتلته المخابرات الامريكية وجعلت منه أسطورة عالمية ستستمر عصوراً مقبلة.
' صحافية من لبنان
zahramerhi@yahoo.com