هو، بِالتأكيد، آخر رواد القصيدة الحديثة التي لم يكل، منذ نصف قرن عاصف، عن تجديدها وتطوير دوالها وتقليب طبقاتها البلورية، حتى عد وجها بازغا في تاريخ الشعرية العربية برمتها. يرتبط سعدي يوسف، لدى كثيرين من قرائه، باسم الأخضر بن يوسف كقناع تحول، باستمرار، إلى فعل كتابي يجعل من منفى الذات، أو بالأحرى ترحلها بين المنافي، استراتيجية القصيدة ومحتملها، التي عالجت المنفى كي تبقى قريبة من الكلمات التي اختارها الشاعر نفسه، وجعلها في حمى رؤياه وحمياها تستبصر وتتهم وتشهد، ولا تهادن أو تعرف التمتمة. لقد شقت القصيدة مغامرتها التي ألهمتها كتابة المنفى وحكمته، ترتيبا على فهم سعدي الخاص والمختلف للحداثة التي كانت تصِل سيرورة تحديثها الشاق والحذر الذي لا يثق في بدهيات الحداثة وكليشيهاتها المجملة، ولا يستهويه كورالها العام، بوعيها الحاد الملتزم بجماليات اللغة الجديدة من حيث إيقاعها وشجرة نسبها الرمزي والتخييلي، بدون أن يصد ذلك عن واجب الإصغاء إلى خسارات الذاتي بقدر ما الجمعي.
هكذا، كانت قصيدة سعدي، في كل مرة يناديها الواجب، تصنع عبورها الخاص بين 'التفاصيل الصغيرة'، التي دفعت بـ'النبرة الخافتة' إلى أقصاها، وبـ'الأعماق الشفيفة' إلى أقصاها؛ وهو ذاك العبور الذي جعل ، بمنأى عن كل شكلانية أو مناورة، من إنسيتنا المعاصرة مدخلا للوعي بما ينهار حواليْنا. ولا يعني العبور، هنا، انتقالا في الزمن فحسب، بل العمل على الارتقاء بالذات من مضايق النص إلى زمنيتها الكبرى، زمنيتنا نحن.
2
من داخل محكياتها الرئيسية، لا يمكن لنا أن نفْصل قصيدة سعدي يوسف عن شرطها، الأرضي أساسا؛ وعن علاقاتها التي كانت تعرض، بطريقة مميزة وماكرة، الرهان الإبستيمولوجي للعمل الفني المفتوح، متخذا صفة المشروع الحذر الذي لا يثق في أوليات الحداثة وكليشيهاتها المجملة وعوالمها الكلية، فيما هو يتخفف من سمات البلاغة والتجريد اللغوي والإعمال الذهني، مؤثرا صفاء الحياة ونداءها عبر مشهدياتها اليومية وتفاصيلها البسيطة والحقيقية كخيارٍ أسلوبي ـ جمالي نوعي لا يفصل حياة الكائنات ومصيرها عن تجربة الشاعر نفسه داخل الحكاية الإنسانية التي يكتبها ويفكر فيها .
يتعلق الأمر، هنا، بالقصيدة الشفافة والهشة. بسياسات تدبيرها لشؤون الإنسانيات العادية التي تجعل الشخصي والذاتي مفْرطا في إنسانيته، ومن تقليب الأعماق ذريعة لمزيدٍ من اكتشاف العالم والآخر. هي السياسات نفسها التي تظهر أن المغامرة الشعرية والمغامرة التاريخية للذات تقتسمان الرهان نفسه، والمجهول نفسه. هكذا نكتشف كيف أن قصيدة سعدي تتحول، باستمرار، إلى حديقة عامة، وإنْ كنا مثل كل نهايات محكياته لا نستطيع أنْ نفسر كيف أن سعديا يعبر كل سلالم العالم بدون أن يتأثر بـ'رضوض التجربة' في حالات الحزن القصوى التي يمر منها. ما نحار له هو كيف أن ثقافتنا الشعرية، وهي ثقافة إعلامِ في الغالب، تسلب قصيدة سعدي الخاصة والمفْردة وظيفتها وقيمتها، في عماء الآني. هذا ما لا نجرؤ على قوله، أو نرغب فيه أصلا. لهذا، دفع الشاعر من جسده وروحه أقساطا باهظة بسبب أفكاره وانتمائه، وبسبب خياراته في الحياة والكتابة اللذين لا يمكن الفصل بينهما في معتقده الجمالي، وهو يواجه ـ بلا هوادة ـ مضارب المنفى والعزلة، كما يواجه مطارح الشيخوخة والموت.
من هنا، جدوى أن يكتب سعدي هنا والآن، حتى لا يموت وحيدا كما قال هو نفسه. في السنوات الأخيرة، يعيش الشاعر ليكتب، لذلك نراه يستثمر كل تفصيلة عابرة، ليصنع منها شعرا، أو عبورا في الشعر. إنه يعيش بشكل متواصل داخل القصيدة، الوطن الممكن حتى الساعة، وما يتبقى يبذله ترحالا وقلقا وتنقلا بين المنافي، مما يجعل من شعره تبئيرا للمكان والمكانية، صادِعا بمعنى أن يكون مقيما على حدود الخطر.
وعن هذا المعنى، بالذات، تفصح أعماله الشعرية الأخيرة بدءا من 'صلاة الوثني'، ومرورا بـ'حفيد امرئ القيس' و'الشيوعي الأخير يدخل الجنة' و'أغنية صياد السمك' و'قصائد نيويورك'، وانتهاء بـ'قصائد الحديقة العامة'، حيث تنهض القصيدة من عالمِ بأكمله يتغير، وهو في زخم المنفى البريطاني منذ عقْد من الزمن، قريبا من بلده العراق.
3
من معرفة قيمة الكلمة التي تؤرخ لأسلوب كتابي شديد الخصوصية تكتسب شعرية سعدي يوسف وظيفتها. في الوصف الدقيق المكتنه للحظة والأشياء، حيث السرد الحكائي المرئي أكثر، والحيوي أكثر، يتخلق بلا تجريد أو ذهنية أو تزيـد أو افتعال، وحيث كل شيءٍ من متاع الأزمنة واللحظات والأماكن والتواريخ والروائح والأنغام والعبورات يصير قابلا للشعرنة بمجرد انبنائه داخل إيقاع سعدي الخافت، المتصل والمنْقطع، المحسوس وغير المرئي، والمتخفف من الإنْشادية والتقفية والتجنيس، والعفوي الذي يأتي من تلقاء البناء النصي، بدون أن يكف عن نموه وتوتره الداخلي وتدفقه التلقائي الذي يشق لوضع المعنى احتمالاتٍ شتى. إنه الإيقاع الثالث الذي يسلك طريقا منحرفا إلى النثر، فلا هو إيقاع الشعر ولا هو إيقاع النثر، وذلك لفرط خفوت نبرته ورهافة أوزانه، ولأنه إيقاع نبرة نثرية تحديدا. إن الإيقاع ،هنا، يمتلك قيمة نثرية أعلى وأبلغ من القيمة الوزنية، تتواءم مع رؤية سعدي النثرية للأشياء والعناصر. وإذا كنا اكتشفْنا، فيما سبق من تاريخنا الشعري ، كيف الإيقاع يرقص بأشكال ووتائر مطردة، وكيف يهرول وينط بلا انْتِظام غداة صار الوزني والمتسق تاليا، فإننا نكتشف صحبة سعدي يوسف كيف الإيقاع يمشي، يمشي حقا. أليس الإيقاع، في آخر التحليل، تنظيما لمعنى الذات في خطابها ـ بتعبير هنري ميشونيك؟
بهذا المعنى، يظل سعدي استراتيجيا في ثقافتنا الشعرية المعاصرة، لأن كتابته، التي لها صفة المغامرة، ظلتْ راهنية مفارقة في علاقتها بالميثات التي تحكم الكتابة راهنا وتؤدلجها، ولأن كتابته تتجاوز الاختزالات الإيديولوجية المتعاقبة، إذ لا أهم في حسبانه من أن يعنى المرء بالشفافية الخاصة بالقصيدة المتجددة باستمرار، غير منصرف داخلها عن ندائه وتكوينه ونسقيته. ومن ثمة، نكون بصدد سعدي يوسف أمام شاعر أمةٍ، شاعرٍ ظل الأكثر تأثيرا في شعراء العربية خلال العقود الثلاثة الأخيرة، ولا سيما في شعراء قصيدة النثر، الذين استهواهم ما وجدوا في قصيدته من رعشةٍ جديدة أصابت جسد الشعر العربي الحديث، تمثلت في العناية بالشفوي واليومي والعابر. ولذلك، ليس بدْعا أن نجد كثيرا من التجارب الشعرية التي تحيا بيننا تدين، بهذا المعنى أو ذاك، لقصيدة سعدي يوسف، بما في ذلك تجارب محمود درويش وأمجد ناصر وغسان زقطان وحسن نجمي ومنصف الوهايبي، تمثيلا لا حصرا. وإذا كان هؤلاء قد حولوا تأثير سعدي في شعرهم إلى صفات منجزهم المفرد والمختلف، إلا أن آخرين كثْرا من ضعاف الموهبة والمتاع الفني قد وقعوا أسارى خلطته السحرية.
4
يقيم سعدي يوسف في قصيدته بشكلٍ مستمر، ويهمه معنى أنْ تكون، وأن تنتمي إلى زمنها ـ زمننا الذي يتحول. والسؤال الآن ـ الذي يفرض نفسه دائما في مثل هذه الأحوال: ماذا أراد أن يقول لنا، وهو الماشي بيننا من نصف قرْنٍ؟ وماذا يريد لنا مما قاله؟
إن سعديا في حله وترحاله لا ينفصل في قصيدته عن ذلك المجهول الذي خبره وذهب إليه، على حواف المغامرة، شعراء العراق في عصرنا الحديث وممسوسوه: الرصافي، الجواهري، السياب، نازك الملائكة، البياتي، جان دمو، سركون بولص، حسب الشيخ جعفر، الجنابي، أمل الجبوري، علي جعفر العلاق،إلخ. يأخذهم المنفى إليه، فيما يظل الوطن البعيد والجهْم والقدري شرْطا شعريا منْتجا يتوكأ على الجراح، حتى ترياقٍ آخر، أحق وأجْـدى !
' شاعر من المغرب
El_ouarari@yahoo.frـ نص الشهادة التي حيّا بها الشاعر المغربي عبداللطيف الوراري الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف بمناسبة تكريمه، على هامش المعرض الدولي للكتاب بالدارالبيضاء 2009.