(1) قبل أكثر من عام كنت على موعد مع بعض الأصدقاء من العاملين في بعثة الأمم المتحدة في السودان في مقهى أوزون المعروف في الخرطوم حين عرفني أحدهم على شاب صومالي حيي قليل الكلام قائلاً: هذا هو الاخ عمر عبدالرشيد شارماركي، ابن رئيس الصومال الأسبق.
(2)
حييت القادم بما يستحق، فقد كنت سمعت من قبل بعبدالرشيد علي شارماركي، أول رئيس وزراء للصومال بعد استقلاله عام 1960 وثاني وآخر رئيس منتخب لذلك البلد المنكوب. وقد أدى اغتياله من قبل أحد حراسه في تشرين الاول (أكتوبر) من عام 1969 إلى بداية المسيرة المضطربة للصومال، حيث وقع انقلاب سياد بري بعد ذلك بعد أسبوع، ولم تر البلاد خيراً منذ ذلك الوقت.
(3)
قلت في نفسي، لا بد أن هذا الشاب كان طفلاً حين اغتيل والده (وبالفعل عرفت فيما بعد أنه كان في التاسعة وقتها) ولا بد أنها كانت مأساة كبيرة له ولأسرته. ولكنا لم نتحدث في هذا الموضوع في ذلك الوقت ولا في لقاءاتنا التالية، بل دار الحديث حول الأوضاع في دارفور، محور عمل ونشاط تلك الثلة من الأصدقاء، وبالطبع الصومال وحالها الذي لا يسر. وفي مرة عبر عمر عن رغبته في إكمال دراسة الدكتوراه وقلت له إننا سنرحب به طالباً عندنا.
(4)
في زيارتي قبل الأخيرة للخرطوم علمت من صديقنا أن عمر سافر إلى واشنطن حيث عينته الحكومة الصومالية سفيراً لها هناك. ثم أتاني قبل حوالي أسبوعين اتصال هاتفي علمت منه أن الصديق الذي عرفت عمر عبره أصبح مرشحاً لرئاسة الوزارة في الصومال، وكانت مفاجأة سارة بحق أن يلتفت أهل الشأن إلى هؤلاء الشباب من أهل الكفاءات والنزاهة ليولوهم هذه المناصب الهامة في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الصومال.
(5)
لسبب يعلمه أهل الشأن اختير للمنصب عمر شارماركي الأكبر سناً وأكثر خبرة من صديقي الشاب الذي ينتمي إلى نفس القبيلة والمنطقة. وربما يكون مما رجحه (إضافة إلى سمعة والده وقبيلته) أنه ينتمي إلى التيار الليبرالي، مما يجعله يوازن الرئيس شيخ شريف شيخ أحمد قبلياً وسياسياً، إضافة إلى قربه من الولايات المتحدة التي خدم فيها سفيراً لبلده وعاش فيها شطراً من عمره وما زالت أسرته تقيم هناك (فيما يحمل هو الجنسية الكندية).
(6)
قلت لصديقي: لماذا حين يصل أصدقائي إلى قمة هرم السلطة لا يكون ذلك إلا في دول مثل السودان والصومال والعراق؟ ما هو العيب في السعودية والإمارات وأمريكا وحتى بريطانيا؟
(7)
صاحبنا الذي أصبح رئيس وزراء للصومال بعد قرابة خمسين عاماً من تولي والده لنفس المنصب وبعد أربعين عاماً من اغتياله يحتاج إلى المواساة أكثر من التهنئة، وهو شعور تعمق لدي بعد ما تابعت على قناة الجزيرة مقابلة مع المتحدث باسم حركة شباب المجاهدين يعلن فيها أن جماعته سوف تستمر في الجهاد إلى يوم الدين ولا تعترف بما سماه 'الحدود المصطنعة' بين الدول الإسلامية ومقولات أخرى تجعل تنظيم القاعدة (الذي اعترف بتعاطفه معه ومشاركته أهدافه) يبدو معتدلاً بالمقارنة.
(
ذكرني هذا الموقف بمؤتمر حضرته في الخرطوم في مطلع التسعينات كان أحد المتحدثين فيه ممثلاً لأمير الحرب محمد فرح عيديد. وقد أبلغ رئيس الجلسة (وكان مفتي البوسنة الشيخ مصطفى سيريش) المتحدثين بأن أمام كل منهم خمس دقائق. وعندما تجاوزها صاحبنا بضعف المدة نبهه سيريش، فطلب المزيد، ثم نبهه ثالثة ورابعة وهو لا يلتفت. وعندما أكثر رئيس الجلسة المطالبة، انتهره الرجل وطلب منه الصمت حتى يكمل، ولم يتوقف حتى أكمل قراءة ورقته في أكثر من نصف ساعة. بعد نهاية الجلسة اقترب الأخ منير شفيق من الرجل وحياه قائلاً: 'الآن أعرف كيف أخرجتم الأمريكان من الصومال!'
(9)
عناد إخوتنا في الصومال يجعل عداوة أي منهم بئس المقتنى، خاصة إذا كان الصومالي يحمل بندقية ويدعي أنه خليفة الله الأوحد في الأرض. كنت قد سألت صديقنا المذكور (قبل أن يعرض عليه منصب رئاسة الوزراء) عن رأيه في فرص الرئيس شيخ شريف في النجاح فكان متشائماً، معللاً ذلك بأن قوة شيخ شريف كانت تعتمد على دعم الحركات الإسلامية التي تحاربه اليوم، بينما يفتقد الدعم القبلي وسند الميليشيات الذي كان يتمتع به الرئيس السابق عبدالله يوسف. بعد مشاهدة ما يحدث في شوارع مقديشو والاستماع لمنطق الحركات الإسلامية المقاتلة وجدت ما قاله معقولاً إلى حد كبير، رغم أنني كنت أسر بعض التفاؤل قبل ذلك.
(10)
الذي يتفق حوله معظم المراقبين والحادبين على الصومال هو أن منطق التطرف الانتحاري الذي تتمسك به حركة شباب المجاهدين لا يخدم الإسلام ولا الصومال، وأن معاداتها لحكومة شيخ شريف غير مبرر وغير منطقي، خاصة وأنها تتبنى منهج التفاوض، ولا تعارض التوجه الإسلامي. يضاف إلى ذلك إن هناك أربع أو خمس حركات إسلامية جهادية لكل منها منهجها وقيادتها، ولكل منها عناد صاحب عيديد الذي أشرنا إليه، وسينتهي الحال بهذه الحركات أن تتحول إلى ميليشيات متناحرة مثل سابقيها من أمراء الحرب تدمر نفسها والبلاد وتهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد.