أيهما عاش في زمن الآخر؟ ارنست همنغواي ام الجنرال باتون؟؟ اندريه مارلو ام الجنرال ديغول، ماركيز ام كاسترو، ونيرودا ام سلفادور الليندي؟ وقد تستمر هذه المتوالية لتشمل في تاريخنا المتنبي وسيف الدولة وأبا تمام والمعتصم .
بدأت هذه الاسئلة تبحث عن اجابة منذ قرأت لأول مرة ان ارنست همنغواي عمل فترة مجندا تحت امرة الجنرال باتون، وهو جنرال عنيد، ومثقف ايضا، فقد كان يجد الوقت لقراءة قصائد ت . س . اليوت الاولى، على الأقل قبيل النوم في سريره المتقشف .
اننا ازاء نموذجين احدهما يفعل على نحو مباشر والآخر يتكلم أو يحلم، وقد يزعم كلاهما ان الاخر هو صداه، كأن يقول اندريه مارلو بأن ديغول ترجم احلامه، او يقول ريجيه دوبريه بأن غيفارا وثوار امريكا اللاتينية تبنوا اطروحاته، وفي المقابل بامكان الجنرال ان يقول بأن المثقف هو أداته لأنه لا يملك من فائض الوقت كي يكتب او يتكلم .
وثمة من يسمون هذه الثنائية سلطة الثقافة وثقافة السلطة، لكن هذا التبسيط لا يفي المسألة حقها، فالاثنان ليسا وجهين لعملة تاريخية واحدة، واحيانا يضطر المثقف الى اعادة انتاج الجنرال كي يبرر تبعيته له واندماجه فيه .
لم يكن سيف الدولة جنرالا بالمعنى الحديث، لكنه كان يمثل السلطة الفاعلة ، فهو محارب ايضا، فكم اضاف اليه المتنبي وكم حذف منه؟ لا شك انه اضاف اليه الكثير، عبر مدائح بالغت في الوصف بما يفوق البشري احيانا، لكن الحذف ذهب باتجاه آخر، عندما حذف المتنبي شاعرية أبي فراس ابن عم سيف الدولة والوالي الذي طالما سال لعاب المتنبي قبل حبره على ولايته او ما يماثلها. هو حذف بالنيابة لا بالاصالة إذن، كي يصبح للشاعر ملكوته المطلق الذي لا ينازعه فيه أحد، ما دام الدهر كله سيتحول الى مردد لصدى صوت الشاعر الذي نظر الأعمى الى أدبه وأسمعت كلماته من به صمم !
قد لا تصلح علاقة المتنبي بسيف الدولة مثالا مكتملا للتعبير عن ثنائية المثقف والجنرال في عصرنا، لكنها بسبب شيوعها ومكوثها في الذاكرة العربية تصلح على الأقل مدخلا نموذجيا لفحص هذه الثنائية .
لقد حاول شعراء عرب معاصرون محاكاة المتنبي في علاقته بسيف الدولة، لكن سرعان ما انقلب المشهد من التراجيديا العباسية الى الكوميديا القومية الحديثة، فلا سيف الدولة موجود ولا المتنبي ايضا موجود، كما ان الانكسارات لا الانتصارات هي العلامات الفارقة لهذه المرحلة التي ازدهر فيها المديح، لكن بعد ان انقطعت صفات الممدوح عن شخصه وحقيقته، وبالمقياس ذاته هناك من حاولوا تقمص أبي تمام، لكن في زمن المعتصم المضاد والذي يعلّق اوسمة على صدره بعدد المعارك التي خسرها ! بالرغم من أن ابا تمام بعكس المتنبي كان قد تخلى عن مكانة الكلمة للسيف، لأنه اصدق إنباء من الكتب !
' ' '
لم يكن الجنرال باتون يعرف همنغواي سائق عربة الاسعاف في الحرب، ولم يخطر بباله ان اسمه قد يذكر ذات يوم على هامش سيرة همنغواي على الأقل من الناحية الادبية، لأن همنغواي لم يكن قد بلغ المكانة التي بلغها، بحيث رمى وساما ناله في سلة القمامة، وتفاقم لديه الاحساس بعبثية المشروع البشري برمّته فأطلق النار على رأسه، بعد ان فاز بنوبل وحققت كتبه انتشارا ونجاحا على نطاق كوني ّ!
لا اعرف ان كانت هناك علاقة ما بين ارنست وباتون، غير تلك العلاقة القسرية التي فرضها التاريخ والحرب، اضافة الى الجغرافيا التي تفرض طغيانها على الناس حتى لو كانوا مختلفي الطبائع والأهواء ! لكن الفترة التي شهدت ربيع الكاتب شهدت في الوقت ذاته ربيع فنانات من هوليوود، ومصارعي ثيران من اسبانيا وصيادين كهول في الكاريبي يبيع احدهم قصته بمئة دولار فقط لمن يعيد انتاجها روائيا، ان ما تبقى من الحرب العالمية الثانية هو الشّاهد المثقف وبقايا الاسلحة في المتاحف ، لهذا قد ينسى الناس في مستقبل الأيام تلك الحرب لكنهم لن ينسوا 'لمن تقرع الاجراس' او 'وداعا للسلاح'، وقد ينسون زلزالا لكنهم يحفظون نصا كتب عنه، ذلك لأن من يحفظون قصيدة ابي تمام قد لا يعرفون الكثير عن معركة عمورية، وانقطاع النص عن مناسبته أمر متكرر في التاريخ، وحين نعود الى علاقة مالرو بالجنرال ديغول، فإن الاحتكام لا يكون لما يشاع عن هذه العلاقة، بل إلى ما كتب مالرو نفسه خصوصا في كتابه الآسر ' السنديان الذي يقطعون ' .
يقال مثلا ان ديغول كان يتخذ قراراته يوم الأربعاء ليفاجئ بها وزراءه ومن يعملون معه، وقد يكون مالرو احد هؤلاء، فالثقافة بالنسبة لمن يصنعون القرار مرتبة أدنى من الفعل، لهذا يروى عن محمد علي باشا انه قال لمستشار احضر له عدة كتب لقراءتها منها كتاب 'الأمير' لميكافيلي : إذهب انت واقرأها، فأنا لا املك الوقت لذلك، لأنني مشغول بتجهيز حملة، وكأنه يقول ان هناك من يصنعون التاريخ وهناك من يكتبون عنه، لكن هذه القسمة حتى لو بدت حاسمة الا انها ليست عادلة، فكتابة التاريخ احيانا صناعة او اعادة انتاج، وقد تتسبب لاحقا في احراف مسار او قناعات لدى قادة يبحثون عن مسوّغات تاريخية لقراراتهم !
' ' '
اختفى بابلو نيرودا في ظروف غامضة اثناء الانقلاب الذي اودى بحياة صديقه سلفادور الليندي، ومن المعروف ان نيرودا كان متاحا له ان يحكم، وان يتولى منصبا نادرا ما يشغله شعراء في تشيلي، وان كانت هناك أمثلة قليلة عن شعراء وكتّاب قادوا بلدانهم مثل ليوبولد سنغور الذي كان رئيسا للسنغال وهافل الذي كان رئيسا لبلاده وهو كاتب مسرحي !
والسؤال قدر تعلق الامر بنيرودا هو هل رأى في صاحبه الليندي تجسيدا لأحلامه؟ أم ان خياله الخصب زيّن له ان الليندي هو احد تجليات قصيدته على الأرض ؟
ما يقوله نيرودا في مذكراته الخصبة يوحي بأن الصولجان هو من حصة الشاعر لا الحاكم وان الحلم سيبقى الى الأبد عصيّا على التجسيد، لكن الأمر يدفعنا الى معاودة السؤال ذاته حول هذه التّوأمة النادرة بين المثقف والسّلطان، إذ لا بد من ان أحدهما تمدد باتجاه الاخر، والأغلب هو تأقلم المثقف مع السّلطة، اذ لم يحدث ان تأقلمت سلطة مع مثقف وتركت له حرية تحديد الاتجاه في بوصلتها، وهناك شعراء انقلبوا على جنرالاتهم ولجأوا الى المنفى، لكن لم يحدث ان لجأ جنرال الى المنفى تاركا الوطن للشاعر، وهنا لا بد من استذكار تلك الحكاية الدرامية عن علاقة شاعر الحب ومسخ الكائنات اوفيد مع الامبراطور اغسطس، فقد نفاه الامبراطور الى أرض تضيع فيها الحدود بين الفصولِ، وهو منفى يليق بشاعرٍ من هذا الطراز ! بعد نفي اوفيد الروماني بقرون... اشتبك صانع التاريخ مع الحالم، كما حدث بين لينين وغوركي بعد ان كتب غوركي رواية 'الأم'، ورأى فيها لينين كتابا ارضيا مقدسا، لكن الحالم سرعان ما وجد نفسه منفيا طواعية خارج روسيا، مثلما وجد ماياكوفسكي منحرا وقد ترك وصية مفعمة بالشّعر والرّواقية ... هكذا لم يكن التزاوج ممكنا بين المثقف والجنرال، او بين الناي والعصا، وكان الطلاق بائنا بينونة ثقافية كبرى يترصد تلك العلاقات غير المتكافئة ...
قوة الجنرال في قراره ونفوذه المباشر وقوة المثقف في المفاعيل الذهنية والوجدانية لنصوصه المؤجّلة، لكن التي سيعاد اليها الاعتبار ذات يوم، وفي اللحظة ذاتها التي يصبح فيها نسيا منسيّا !
' ' '
ان ابسط تعريفات السياسة بأنها فنّ الممكن او المتاح يتعارض تماما مع ابسط تعريفات المثقف في السياسة كما قال سارتر في مسرحية 'الأيدي القذرة' شروع في اتساخ الأظافر، لأنها تتجاوز البراغماتية الكلبيّة احيانا، وتستعيد قابيل وهابيل على نحو اكثر توغلا في الدم، لهذا فالتعارض ينتهي حتما الى التضادّ بين من يتعامل مع الأمر الواقع ومن يحلم، وبين من فرغ لتوه من احصاء غنائمه ومن حوّل الخسارة الى ربح اخلاقي . وقد عبّر الجنرال ديغول في حديث له عن الشاعر بول ايلوار عن الفارق الفلكي بين السياسي والمثقف، لأنه حمل ساسة اوروبا وجنرالاتها مسؤولية حربين عالميتين، واذا حدث ان تطابق السياسي مع المثقف في مرحلة ما فهي بالتأكيد مرحلة ما قبل الدولة كأن تكون مرحلة حركة تحرر وطني او انتقال مؤقت، إذ لا بد من اشتباك محتم بين المثقف والجنرال حتى لو تبادلا الاوسمة والمجاملات، وفي عالمنا العربي تبدو هذه الظاهرة منذ جذورها التاريخية مُزمنة، لكن الالتباس غالبا ما يجعلها اقل وضوحا، لأن الثقافة العربية طالما قدّمت تسويغات لأولي الأمر حتى لو تحولوا الى أولي نهر وزجر، ويتم احيانا تقويل تعسفي لمرجعيات دينية وتراثية بحيث توظف لهذا التسويغ، ولدينا خلال العقود الخمسة الماضية من الأمثلة ما يكرس تلك القاعدة القصديرية التي تحول الجنرال الى معصوم، وتحصّنه ضد النقد، فهو الذي يرى للناس ويفكر لهم ويحلم نيابة عنهم، لكنهم ينوبون عنه بالموت فقط، فالهزيمة هي حصّتهم اذا هزم، والنصر هو حصته اذا انتصر حتى لو كان هذا الانتصار كما وصفه احمد شوقي في احدى مسرحياته مجرد ظفر في فم الأماني ليس لمن يدّعيه منه قلامة ظفر !
' ' '
كتب ماركيز عن الجنرال في متاهته، لكن ما من جنرال حتى الان كتب عن المثقف في متاهة أخرى، رغم ان التّيه يشمل هذا الكائن المهمّش الذي يسخر منه السّاسة واصفين اياه بالرومانسي المستغرق في غيبوبته البنفسجية، وما من بشارة تلوح في الافق تنبىء عن انعتاق قريب للثقافة من براثن السلطة خصوصا بعد ان ورث احفاد المشتغلين في هذه الحرفة عن السّلف موعظة خرقاء هي ان يمدوا اجسادهم على قدر فراشهم وأن يتأقلموا مع شروطهم التي تحاصرهم كالشّرانق، فإما ان يتوقفوا عن النّمو عند طور العذراء او يتحولوا من فراشات الى ذباب !!!
' شاعر وكاتب من الاردن