لم يقابل أي قرار اتخذه الحكام الموريتانيون عبر تاريخهم بالترحيب مثل ما قوبل قرار تجميد العلاقات الموريتانية الإسرائيلية، فقد نسي جل السياسيين مآخذهم على المجلس الأعلى للدولة، وعلى رئيسه، ولم يتخلف منهم أحد عن ركب الترحيب والإشادة.
وبدا أن قرار التجميد أثمر في بضع ثوان ما لم تثمر المساعي السياسية والإعلامية لمدة خمسة أشهر من الدعاية. فالجبهة الوطنية للدفاع عن الديمقراطية ألد الأطراف السياسية خصومة للجنرال محمد ولد عبد العزيز، سارعت أحزابها إلى الإشادة، بهذه الخطوة، وإن طالبت بأن تتوج بالقطع النهائي للعلاقات.
وبعد أيام من اتخاذ القرار، وهدوء عاصفة التصفيق، يحق لنا أن نتسائل عن خلفيته، ودلالة الزمان والمكان، والبحث على مستوى صلابته.
بحثا عن الشرعية..
لم يأت قرار التطبيع مع إسرائيل عام 1999 استجابة لنخوة عربية، أو تعزيزا لمساعي السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا هو خدمة للقضية الفلسطينية، فموريتانيا بموقعها الجغرافي ومكانتها السياسية وبنيتها الاقتصادية أضعف تأثيرا من الدول العربية المحيطة بفلسطين، وعلاقة هذه الدول بإسرائيل لم تجد الشعب الفلسطيني، بل كانت قيدا يكبل كل جهود النجدة، وباتت طوقا منيعا يحمي الاحتلال من أكثر المنافذ حساسية. بل كان العامل الرئيسي في اللجوء إلى أحضان اسرائيل ومن وراءها الولايات المتحدة الأمريكية البحث عن الحماية السياسية والقانونية الدولية من الملاحقة الجنائية التي سعت منظمات حقوقية جادة للقيام بها، بغية مساءلة الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي احمد الطايع وقادة المؤسسة العسكرية، عن جرائم ضد الإنسانية تتهمهم حركات الزنوج في موريتانيا بارتكابها، إبان الأحداث العرقية نهاية عقد الثمانينات. وكانت حادثة اعتقال الضابط الموريتاني اعل ولد الداه في فرنسا بتهمة ارتكاب جرائم حرب رسالة واضحة، مفادها أن المنظمات الحقوقية باتت ذات نفوذ كبير في جهاز الحكم الفرنسي مهددة بذلك حلفا تقليديا بعمر الدولة الموريتانية.
يضاف إلى ذلك أن الانتخابات الرئاسية التي أجريت قبل أشهر من توقيع اتفاقية التطبيع شهدت مقاطعة أهم الأحزاب السياسية وقتها، وظل التزوير السمة الرئيسية لنتائجها، وواصلت المعارضة نضالها بما أتيح لها من سبل التعبير السلمي، ووقفت صفا واحدا وراء الملف الإنساني، وتبنته التيارات السياسية في برامجها، حتى صارت عودة المبعدين الزنوج والتحقيق في المجازر المفترضة مطلبا إجماعيا وأحد ثوابت الخطاب السياسي. لذلك وجد نظام ولد الطايع نفسه يحكم في جو مشحون بالتحديات، فالداخل يرفضه، والحليف الأقدم تخلى عنه، فكان لزاما عليه البحث عن حليف جديد يركن إليه، ويكسبه شرعية مفقودة، فأشير عليه أن أقرب طريق إلى قلب الولايات المتحدة الأمريكية يمر بإسرائيل. ولعله من الصدف أن تنقلب الموازين فجأة بعد انقلاب الجنرال محمد ولد عبد العزيز، على الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله، الذي ما تزال الولايات المتحدة تعتبره الرئيس الوحيد لموريتانيا، وترفض التعاطي مع المجلس العسكري الحاكم. فكانت العلاقات مع إسرائيل أهم ورقة يمكن أن يساوم بها العسكريون، في ظل وضع الحصار الدولي، فيعرضون الإبقاء عليها مقابل الإعتراف الأمريكي بهم، أو يضغطون من خلالها على البيت الأبيض لتخفيف لهجته.
والمتابع مسار المجلس العسكري مع هذه العلاقات يدرك أن خطوة استدعاء السفير الموريتاني في تل ابيب ـ الذي بالمناسبة كان في نواكشوط يوم أعلن استدعاؤه، ولم يكن في إسرائيل وفق ما نشر في الإعلام المحلي- كانت باردة جدا، فلم تصحب ببيان من وزارة الخارجية يفصل أسباب الإجراء، ولم يصحبها استدعاء السفير الإسرائيلي في نواكشوط لإبلاغه احتجاج موريتانيا على ما يجري في قطاع غزة. وكشفت الإجراءات عن استهلاك محلي لتسكين موجة الغضب العارم الذي اجتاح الشارع الموريتاني، ووصل لحد سقوط عشرات الجرحى في مظاهرات جمعة الغضب. ولو لمس العسكريون من الولايات المتحدة اكتراثا بإجراء استدعاء السفير من تل أبيب ما أعلن رئيس المجلس الأعلى للدولة تجميد العلاقات الذي قفز به كثيرا على مراتب الإحتجاج الديبلوماسي، تاركا هامش القطع النهائي للمناورة.
؟ أما وذاك لم يحصل فقد عمل فريق العسكريين على التقدم خطوة أخرى، لإسقاط إحدى الأوراق التي راهنت عليها الجبهة المعارضة للانقلاب، وسعيا لاكتساب شرعية لدى النخبة الموريتانية التي تتعلق بالقضية الفلسطينية، ولدى العوام الذين طالما استغلت علاقات موريتانيا بإسرائيل لإثارة نقمتهم على الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع.
عن التمويل أيضا..
الركن الثاني الذي ارتكز عليه نظام ولد الطايع في تبنيه للعلاقات مع إسرائيل كان البحث عن تمويل المشاريع الاقتصادية والتنموية، فالعلاقات المتوترة حينها مع فرنسا شكلت تهديدا لمورد إقتصادي يعتمد عليه الاقتصاد الموريتاني، وهو التمويلات والهبات الأوروبية. فكان التفكير بإيجاد بديل عن هذا التمويل أحد أهم مبررات تلك العلاقات مع إسرائيل، وظل المدافعون عن بقائها يخوفون الموريتانيين من قطع المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة، والدول الغربية عموما، في حال قطعت تلك العلاقة.
وكما كانت مسألة التمويل أحد عوامل الإغراء بالتطبيع، كانت كذلك أهم عوامل التجميد، فالمجلس العسكري المحاصر من الغرب بفعل انقلابه على رئيس مول انتخابه بأموال الدول الغربية، وجد من الدول العربية والإسلامية من تعرض تعويض المورد الغربي إن قطعت العلاقات مع إسرائيل.
ولعل الحديث عن عرض الزعيم الليبي معمر القذافي على العسكريين إعداد فاتورة بالكلفة الإقتصادية لقطع العلاقات الموريتانية الإسرائيلية، وتعهده بأن تتولى ليبيا دفعها مهما كان سقفها، وما صاحب تاريخ هذه العلاقات من تعليقات للقذافي تسببت عدة مرات في توتير العلاقة بين موريتانيا وليبيا لسنوات، يشهد لذلك.
وغير بعيد عن السياق ذاته زيارة نائب الرئيس الإيراني التي يعتقد أنه قدم فيها للجنرال محمد ولد عبد العزيز عرضا مشابها للعرض الليبي.
وما حضور موريتانيا قمة الدوحة إلا إحدى تجليات البحث عن التمويل لتوفير بديل عن المورد الغربي ، إذا علمنا أن السنة الحالية ستشهد تنظيم انتخابات رئاسية رفض الغرب تمويلها أو الإعتراف بها، فيما أبدت قطر رغبتها خلال الأيام الأولى في التقرب من الحكام الجدد فكانت أول المهنئين لحكومة العسكريين، ودعت الأطراف المتنازعة للقاء في الدوحة، سعيا لرأب صدع الثقة بين العسكريين والمناوئين للانقلاب. فيما لم تبد السعودية نفس الحماس في التعاطي مع المجلس العسكري الحاكم، فكان طبيعيا أن يصدر إعلان تجميد العلاقات مع إسرائيل من الدوحة، ويعود الجنرال ولد عبد العزيز إلى نواكشوط، مكتفيا بإرسال وزير خارجيته إلى قمة الكويت.
إعلان المزاد..
قرار تجميد العلاقات مع إسرائيل - كما إقامتها- لم يأت تلبية لرغبة جماهيرية، ولا دعما للمقاومة، ولا تضامنا مع ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة، وما تحاول الأطراف السياسية الموريتانية ترويجه من كون التجميد جاء تجاوبا مع الغضب الجماهيري العارم الذي تعرفه موريتانيا منذ بداية العدوان لا يعدو أن يكون سلعة دعائية للاستهلاك المحلي، امتصاصا لغضب الشعب، واستقطابا لأنصار جدد، لتلقيص أنصار التيارين الإسلامي واليساري اللذين يشكلان العقبة الحقيقية أمام أي تسوية بين العسكريين وخصومهم السياسيين. وسيكون استمرار قرار التجميد - بل حتى تنفيذه- مرهونا بتعاطي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي مع المجلس العسكري، فإن أبدت أمريكا تجاوبا ولو جزئيا مع العسكريين وخفضت سقف مطالبها أو حدة لهجتها، فلا يستبعد أن يعلق تنفيذ القرار الذي لم يؤطر زمنيا حتى الآن، ولن تعجز الحجة حينئذ.
ومالم يحصـــــل ذلك فلن يدخر المجلس العسكري جهدا في المتاجرة بالموقف في البورصـــات السياسية العربية والإسلامية، لاستجلاب مزيد من التـــــمويل لمشاريع تنموية معطلة منذ بداية الأزمة الموريتانية في نيسان (ابريل) 2007 بعد توتر العلاقات بين الرئيس المعزول سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله والجنرالات النافذين في الجيش.
فيما أبقى العسكريون على عرض القطع النهائي لمناورة سياسية أخرى، يوهب فيها لمن يدفع أكثر، ويصعب التنبؤ بالمدى الزمني لطرحه في السوق السياسية، على الأقل وفق المعطيات الراهنة.
صحافي ومدون موريتاني
19
[tr]