الفوضى العارمة التي يعيشها العالم والتعقيد الذي يشوب واقعنا وقضايانا وأوطاننا يُشعر المرء بكثير من الغربة مع ذاته لعدم قدرته على الفهم وعلى استيعاب جوانب كثيرة من الأحداث كما تَحُد من قدرته على التحرك الفاعل والمجدي.
الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة والاعتداءات السافرة المنافية لكل الشرائع والتشريعات و'الشرعيات'، انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني وكل التقتيل والدمار والموت الذي تتقنه آلة الحرب الإسرائيلية.
إحساس جماهير العالم العربي والإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها بالظلم والهوان والضعف وبكثير من الغضب والحنق على واقع مرير وسياسات قُطرية متفرقة، ضعيفة، متواطئة، خانعة وعاجزة.
وعالم غربي يرقص على جثة الضحية، لا تحركه إلا مصالحه ولا تعنيه قيم إنسانية، يصمت ويدعم الجرائم التي يرتكبها الإسرائيليون ضد مدنيين عزل في قطاع غزة.
كلها مشاهد بشعة وحلقة مفرغة من صمت وتواطؤ وظلم وخنوع وعجز. وأمام هذا الواقع المعقد والفوضوي، أمام هذه الوضعية التي أصبحت مزمنة كلنا تساءل كيف يجب ان يكون شكل حركتنا للتغيير؟
إن الدماء الزكية التي سالت على ارض غزة وكل ذلك القتل والدمار والعنف كان صاخبا صارخا بما يكفي ليحيي في جماهير الأمة ضرورة فعل شيء ما، وإلزامية تحمل كل فرد منها مسؤوليته التاريخية والوطنية والدينية والإنسانية.
فمن تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة تشَكلُ وعي لدى الشعوب، وأعتقد أن الرأي العام العربي تجاوز شكله السياسي ليرنو لرأي عام تاريخي كفيل بتغيير الواقع على المدى المتوسط والبعيد. لكن تغيير مجرى التاريخ لا يتأتى إلا بجهد مستمر ومكثف وبتحرك موجه نحو أهداف معينة.
المسألة تتعدى كونها غضبة وهبة كرد فعل على اعتداءات إسرائيلية، كانفعال ضد الظلم وانعدام للعدالة في هذا العالم بل هي استثمار للوعي الشعبي والفردي وحتى المؤسساتي لضرورة العمل على بناء ورسم واقع جديد نصرة للحق والعدل ونصرة لشعوب مضطهدة ومظلومة ومسلوبة الحق ونصرة للإنسان العربي.
إن فعلنا وتحركنا في اتجاه الأهداف التي أسلفت لا يجب إلا أن يكون على شكل الذرة. وما الذرة إلا نواة ومجموعة إلكترونات بل هي حركة الكترونات حول نواة ما. والذرة هي كل ما نرى حولنا هي الكون.
أؤمن أنه بغياب نواة ومركز لن تكون لنا حركة منظمة في اتجاه صنع شيء ما. والنواة قد تكون فكرة، شخصية، جماعة، مؤسسة، دولة ... المهم قدرتها على الجذب والتأثير والتعبئة ضمن نظام متقن تماما كالذرة قادر على تحقيق المعادلة بين السالب والموجب في هذه الأمة.
الذرة ذلك الجزء المتناهي في الصغر يعلمنا الكثير، فالمتناهي في الصغر المنظم يؤسس للكبير العظيم. وبذلك لا نستصغر جهدا ولا نحتقر عملا لبساطته.
وعلى امتداد الوطن العربي الكبير لا نرى تجليا واضحا ونموذجا لهذه التركيبة إلا في قطاع غزة وفكر المقاومة.
المقاومة نواة يدور حولها الكترونات كثيرة يشكلون ذرة لأمور عظيمة، ما يفعله الإسرائيليون وتحديدا من خلال هذه الحرب هو محاولة بعثرة وتشتيت الالكترونات وإحالتها عن مسارها الدوراني، يريدون أن يرتد الفلسطينيون عن المقاومة وبذلك يخِلون بتماسك هذه التركيبة فلا تكون هناك ذرة وإنما ضر وضرر.
اِعتقد الإغريق قديما أن الذرة غير قابلة للانقسام لذلك أسموها 'اتوموس' وهي نظرية أُثبت عدم صحتها لكن هناك ذرات لا يمكن أن تنقسم أو تنشطر تلك الموصولة بالسماء، المشمولة بعناية المولى الجليل.
إسرائيل قد تكون دمرت وقتلت وجرفت لكنها قطعا لم تستطع ولم تنجح في اختراق هذه التركيبة وإسقاط المقاومة. فندرك بجلاء أن القوة نواة والكترونات وإخلاص ووفاء.
ولا أرى شكلا أمثل لتحركنا إلا بهذه الطريقة على أن نجعلها قاعدة في كل ما نقوم به، بدون ذلك سنبقى مجموعة نوى مطمورة غير ظاهرة والكترونات متناثرة في كل مكان لا تشكل حركة منظمة بل مشهدا عبثيا.
يقال أن الحماقة الكبرى هي أن تفعل الشيء مرة بعد أخرى وتتوقع نتائج مختلفة، وقد حان الوقت كي نغير من تكتيكنا واستراتيجياتنا وببساطة أن نغير طريقة عملنا، أن نجرب سبلا أخرى مادام كل ما خضناه آنفا فشِل وخاب. أول الطريق 'تطهر'، النار أكثر ما يطهر وما الحرب والنار الإسرائيلية إلا تطهير لكثير منا، تمييز بين الخبيث والطيب وبداية استواء.
الحرب على غزة لن تكون حتما الأخيرة وربما البداية، كونها تتوقف لا يعني أن ننسى دورنا في تغيير كل ما حولنا في بلداننا، لذلك العملية هي تحرك يومي ومستمر. كل من موقعه، أيا كان موقعه عليه الإصلاح والتحرك نحو التغيير في كل المجالات برؤية واضحة وموجهة. إن الذرات تلك العناصر المتناهية في الصغر هي هذا الكون العظيم الذي نراه وكثير مما لا نراه، علينا أن نشكل ذرات، مهما كانت متناهية في الصغر، فهي حتما ستؤسس كوننا وعالمنا، نصرنا وعزتنا يوما.
نزهة شكري
كاتبة من المغرب
25