لا بد من اضافة صفة ما للمخيّم كي يستكمل دلالاته السياسية والاجتماعية، خصوصا في لغتنا التي لم تكن الخيمة فيها تعني ما تعنيه الان، لأنها كانت لقرون طويلة بيت العربي الذي يلوذ به في عراء الصحراء، لهذا ما اعنيه بالمخيّم هنا هو المعنى السياسي ذو البعد الفلسطيني بالتحديد رغم ان مصطلح العالقين اضاف جنسيات أخرى، فما اسرع ما تُنصب الخيام على الحدود اذا قرعت طبول الحرب، بحيث اصبح من حقنا ان نقول بأن العرب المعاصرين استجابوا للموعظة الرسولية، لكنهم أعدوا لعدوهم ما استطاعوا من خيام لذويهم اما رباط الخيل فله مقام آخر بعد ان تقاعدت الخيول وتفرغت لجر العربات مقابل نصف وجبة من علف مغشوش !
ما من نمــط انتاج محدد لمخــيّم، فهو زمــــان تخثّــــر وتصلب وتماسك حتى اصبح مكانا، وان كان قد تمدد زمانيا نحو المدن التي يتدلى من خواصرها في الوقت الذي تمددت فيه المدن عمرانيا ومكانيا نحو المخيم واوشكت ان تضيفه الى ضواحيها!
خمس مفارقات على الأقل اقترنت بالمخيم منذ نشأ بعيدا عن اطلال القرى والأحياء التي كان اصحابه يعيشون فيها، المفارقة الاولى انه مخيم بلا خيام، فلا توجد الآن خيمة واحدة في المخيمات لكنه احتفظ باسمه رغم ان بعض المخيمات حجري بامتياز وقد سطت عليه عشوائية العمران في المدن العربية التي اصابها التورم بتمدد سرطاني، والمفارقة الثانية انه بقي كمناسبة ادبية محتفــــظا برمزه الأول ، فالشعراء يتحدثون عنه وكأن الخيام نصبت للتو، واللاجئون متفرغون فقط لانتظار العودة، وفي يد كل واحد منهم مفتاح بيـــته القديم، والمفارقة الثالثة هي ان حالة الانتظـــار والترقب لم تستمر ستين عاما، وثمة ثلاثة اجيال تناسلت في المخيم، لهذا فهو شأن القرى العربية التي يعيش فيها مواطنون ليسوا مهجرين حيث تجد الحمار والانترنت معا يتعايشان في البيت الواحد، ويكفي ان يراقب المرء حبل غسيل منشور على السطح كي يقدم له هذا المشهد عيّنة نموذجية لاستقراء سوسيولوجي، فالتعايش ايضا يشمل عباءة الجد وشروال الجدة وبنطال الجينز للاحفاد وكوفية الاب ومعطفه، والفولكلور يعيننا احيانا على التعرف على حدود الهوية عندما تكون جريحة وتعاني من قضمٍ يستهدفها .
والمفارقة الرابعة هي تناول المخيم ثقافيا وفي مختلف المناسبات باعتباره مطلبا وطنيا، لأنه اكتسى بمرور الوقت بطلاء جمالي عزله عن السياق الاجتماعي والثقافي للمجتمعات التي يعيش داخلها، وبدلا من التعامل معه كحصيلة احتلال وتهجير ، اكتسب قداسة وطنية وتحول الى مفهوم مجرد .
والمفارقة الخامسة وقد لا تكون الاخيرة هي ان المخيم ليس متجانسا كطبق من البيض او صندوق من قطع الغيار، وهذا ما تنبّه اليه بحصافة روائية الشهيد غسان كنفاني عندما قال ان خيمة عن خيمة تفرق، تعبيرا عن الطبقات الطارئة لمجتمــع لا يستطيع البقاء طويلا عاطــــلا عن وظائفه التاريخية، والتصنيفات الاجتماعية، ففي المخيم ثمة فقراء وأغنياء، متعلمــون وأميون ومنحدرون من أصول اجتماعيــة واقتصادية مختلـــفة وقد ساهم هذا كله في صياغة نسيج المصاهرات والعلاقات! وحين قام د. حليم بركات وفريق من الباحثين معه في اجراء دراسات ميدانية على المخيمات وكان مخيم زيزياء نموذجا لها، توصل الى نتائج بالغة الاهمية، لكن هذا المشروع لم يكتمل، وظل المخيم مساحة مسكوتا عنها في ثقافة التواطؤ والتهميش. ان المخيم بقدر ما هو هامش.. هو متن ايضا، وبقدر ما هو منفعل بالمدينة التي يجاورها، يفعل فيها، لأن حركته دائمة، وكذلك حركة المدينة، كلاهما يصيب الاخر بالعدوى، المخيم يصيبها بعدوى اللااستقرار ويغذي نزعة الترقب، وهي تصيبه بعدوى الانتقاع والتأقلم، بحيث يعيش على طريقة إعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، لكنه لا يعمل لعودته كأنه سيعود الى بيته الأول غدا !
ان التعامل الادبي مع المخيم، يقدم حالات نموذجية لذهن مضطرب، ولعقل سياسي يتخلى عن اهم ضوابطه لصالح التفكير الانفعالي او ما يسمى تفكير القلب .
بعض الروائيين العرب جرجروا ابطالهم من المدن الى المخيمات او العكس، لكنهم نادرا ما مكثوا طويلا في أزقّة المخيم، لجهلهم بأنماط الحياة فيه، فهو بالنسبة اليهم دلالة سياسية ، وجملة معترضة في كتاب التاريخ وعالقة في تضاريس الجغرافيا وقد اعترف لي قاص عربي بأنه سرعان ما حمل بطله من المخيم الى المدينة كي يتسنى له ان يصف ما يعرف وان يجد لديه ما يقوله، ومن حقي ان أفترض بأن قاصّا آخر قد فعل العكس، عندما حمل بطله من المدينة الى المخيم لأنه يعرفه وهو الأدرى بشعابه لأنه ولد او تربى فيه !
اما الشعر بشكل خاص فإن حكايته مع المخيم تطول، وقد يتطلب تقديم رؤاه ومعالجاته للخيم كُتبا وليس كتابا واحدا، وذلك لغزارة ما كتب في هذا المجال اولا ولقابلية هذه الغزارة للغربلة والفرز والكشف عن مرجعيات الثقافة .
'''
لقد صمتنا طويلا عن مصطلحات فوسفورية اتسع نفوذها فاقتادتنا انوفنا قبل اقلامنا الى كتابات يجب تفكيكها للتعرف على الوعي السالب الذي كان يحركها ويجترح لها طرقا في الغابة او الصحراء... لا فرق، رغم ان طريق الصحراء مهدد بالامحاء العاجل، وكان مصطلح شعر المقاومة وأدبها، بشكل أعم، قد تفلطح حتى اصبح يعني كل شيء ولا يعني شيئا، لأن هناك من تولوا تضييق مفهوم المقاومة بحيث لا يزيد عن قُطر فوهة بندقية او مسدس، وهناك بالمقابل من وسّعوا وعمّقوا هذا المفهوم ليشمل الحياة كلّها... والأمر أشبه بمن يجلس قرب شاهدة قبر بانتظار ان يصبح جارا للفقيد العزيز، مقابل آخر يجلس تحت الشاهدة بانتظار قيامة عاجلة ، ويبدو ان لكل شيء وجهين، وهذا من طبيعة الحياة ونواميسها وجدليتها الخالدة ....
ومثلما اتسع ادب المقاومة لقصائد تخلو من الشعرية وروايات ذات بناء كرتوني او يشبه لعبة الليغو فإن المخيم ايضا اتسع للشيء ونقيضه، لقد اتسع للمثقف الثوري الذي حوّل العقبة الى رافعة مثلما اتسع لشبه المثقف الذي أفقر القضية واقترض منها بدلاً من ان يسلّفها ويعطيها، وهناك قصة يرويها مالك حداد عن اسكافي فرنسي أُرسل ابنه الوحيد الى الجزائر اثناء الاحتلال، يقول هذا الاسكافي ان رفضه لاحتلال الجزائر لا يستطيع التعبير عنه الا بالاعتذار عن اصلاح أحذية الجنود، فهذا أضعف الايمان المتاح لديه، وليس أمام المعلم المقاوم الا اتقان مهنته وتعليم تلامذته باخلاص ، وسيبدو مثيرا للسخرية اذا هشّم الطباشير وكسر اللوح الاسود. ان التحريض على الحياة والتبشير بها كرد حاسم على الموت هو من صلب المقاومة، لهذا خسرنا كثيرا من الشعر تحت شعارات المقاومة، وهو في الحقيقة مصاب بأنيميا جمالية حادة، ولا يعيش طويلا ، كما انه لا يقاوم ما يجب مقاومته، بدءا مما وصفه 'مالارميه' بصدأ اللغة وتعفّنها من فرط التدجين والانتقاع !
'''
في احدى قصائده يقول محمود درويش: تعبس المدن الكبيرة كلّما ابتسم المخيم، وتلك رؤية درويشية بامتياز، لأن مفهوم المخيم لديه ليس ذلك المفهوم الشبه تاريخي لدى آخرين، وابتسامة المخيم هي في نهاية المطاف انتصار المهمّشين سواء كانوا مطرودين من وطنهم او أسرى في عقر دورهم وبلدانهم !
والمخيّم لمن يجازف في استقراء احشائه من الداخل، فهو يعيش في الواقع اكثر شعرية من معظم القصائد التي كتبت عنه او حوله، لأن الكائنات فيه تعيش على الحافة من كل شيء، انها هنا بقدر ما هي هناك، لديها مهارة التأقلم بقدر ما لديها من مغامرة العصيان، لهذا فإن للمخيم ابعاداً عديدة يتعذّر اختزالها، لكن ما ان يبدأ سكانه المؤقتون بالتسرب منه الى احياء المدن حتى يدخلوا في طور آخر، هو طور الاختبار فثمة من يتنكر لطفولته ويخترع غيرها، وثمة من يعوج لسانه كي يتخفى وراء هوية او طبقة، وهذا ليس جرما بشريا، انه من صميم التأقلم الدفاعي، شرط ان لا يتحول الاجرائي الى أبدي .
'''
اقترن المخيم في العقود الماضية بمشهدين متكررين اولهما كونه الحاضنة الدافئة بل القابلة التي تستولد الثوار والنشطاء، وثانيهما تعرضه الدائم للانتهاك إما لأنه محشو في زقاقين او ثلاثة او لأنه أعزل، لكن المخيم الذي لا يتجاوز طوله كيلومتراً واحداً، يتمدد احيانا ليصبح بسعة قارة كما حدث في مخيم جنين عندما تم اجتياحه عسكريا. تمدده هذا في النطاق القومي يحوله من هامش الى متن، بحيث يشعر ملايين العرب بأنهم لاجئون وهو وحده المواطن المقيم والآمن، وهذا ما يفسر لنا تحول المخيم او ما يشبهه كما حدث في بيروت لربع قرن من لاذ الى ملاذ، فقد لاذ عرب به عندما كان ندّاهة الغاضبين والحالمين، لكن هذه الحالة لم تدم ولم يسمح لها بالديمومة لأنها تفتضح عواصم هي في حقيقتها مخيمـــات عملاقة، تتنكر خلف طلاء الرخام.
ونحن هنا لا نبتكر تعريفا جديدا للمخيّم بقدر ما نسعى الى تفكيـــك دلالاته في الــذاكرة الثقافية، فهو يتحول عبر حراك حيــــوي في الواقع لكنه ماكث في الذاكرة الثقــــافية على ما كان علـيه، وهذه مناسبة لاجراء مقارنة بل مباعدة نقدية بين الطريقة التي استخدم بها شعراء عرب اسطورة بنيلوب والطريقة الفذة التي عالجها بها يانيس ريتسوس ..
بالنسبة للشعراء العرب الذين استخدموا الاسطورة يتوقف الزمن، وتبقى بنيلوب متحجرة عند السن الذي جلست فيه على الشاطىء، وكذلك عوليس الذي يفترض الشعراء الذين ينتظرون عودته انه سيبقى على حاله ..
وحده ريتسوس من شحن الاسطورة بالتاريخ بل حوّلها الى تاريخ، عندما جعل بنيلوب تفاجأ بالعائد الكهل الذي امتلأ جسده بالندوب ، مثلما فوجىء هو ايضا بها وقد شاخت .
لقد تغيّر مفهوم المخيّم، لكن العارض فيه تجوهر خارج الوعي الذي يرصده لأنه وعي مطابق للسائد وليس مفارقا له... وقد استطاع المخيم ان ينحت تضاريسه كقرية او كحي شعبي في مدينة عربية خلال عدة عقود لأن الحياة تنظم نفسها حتى لو كانت في باخرة تائهة او جزيرة خارج مدار البوصلة .
ان المخيم أفصـــح من المتحدثين عنه وباسمه لأنهم ينوبون عنه وعن اهله من مرتفعات تقع خارجه تماما. أما شعريته فهي بانتظار ميداس آخر يحوّل التراب الذي يلامسه الى ذهب وماس وليس العكس !!!
شاعر وكاتب من الاردن
84