من بين أكثر الضحكات كلفة في حياتي، ضحكة بمحاضرة 'التحرير الصحافي'. كانت الأستاذة تركت الحديث عن صياغة الخبر، متوجهة بحديثها إلى الزميلات بوصفهن ربات بيوت لا صحافيات المستقبل، فأخذت تتحدث عن التدبر المنزلي لدى سيدة البيت الشاطرة، التي تستطيع تجديد المتبقي من طبخة الأرز الأبيض بقليل من الطماطم لتصبح وجبة جديدة في اليوم التالي!
كلفتني الضحكة الطرد من المحاضرة والرسوب في مادة التحرير، المهنة التي كنت أمارسها عملياً بعيداً عن مدرجات الجامعة. وتطلب الأمر سنوات طويلة كي أدرك أن الأستاذة الجامعية، ربما كانت تتحدث عن نوع من الكتب لا أحبه، مثلما لم أستسغ فكرتها عن الأرز المجدد بالطماطم.
أعني الكتب التي لا تولد كتباً من البداية؛ كتب المقالات التي يكتبها أصحابها في مناسبات مختلفة، ثم يجمعونها إلى بعضها بعضا ويرتجلون لها مقدمة وعنواناً طناناً رناناً، ويجعلون منها كتاباً. وأرى أن معي الحق في موقفي من أكثر من زاوية.
أولاً، يفترض بكتاب الفكر أن يقدم موضوعاً واحداً يتعمق فيه، وبهذا يختلف في وظيفته عن الصحيفة.
وثانياً، هناك فرق وظيفي وجمالي، بين العمارة التقليدية المتعاشقة العناصر، وبين البيوت سابقة التجهيز التي ترشح ماءها وأصواتها على الطوابق السفلى، ولا تستطيع أن تدق مسماراً في جدارها لتعلق لوحة أو صورة.
ويوجد ثالثاًً مبرر شكلي للرفض، يتعلق بفكرة المؤلف عن نفسه أو عن الكتاب، حيث يتوهم البعض أن كل ما يكتبه مقدس ويستحق الخلود بين دفتي كتاب، بينما ينطلق البعض من نظرة إلى الكتاب بوصفه أرشيفاً شخصياً، يريحه من الاحتفاظ بقصاصات الورق التي تحمل أفكاره عديمة الجدوى، ولذلك لا نجده يبذل حتى مجهوداً لحذف التكرار أو توثيق بعض التواريخ والأزمنة، كأن نقرأ في كتاب صيغة الحاضر المرتبطة بحدث صار في الماضي عند نشر الكتاب.
وهناك كثر يستغلون سطوتهم، لتجنيد دار نشر أو هيئة نشر عامة، لعمل هذا الأرشيف الشخصي، الذي سيحظى في الغالب بمراجعة أو مراجعتين صحافيتين ترضيان صاحبه بالحديث عن أهمية ما يحمل من أفكار، على الرغم من أن الطبخة ذاتها لم تلق أي استحسان عندما قدمت طازجة في الصحف الأوسع توزيعاً وانتشاراً من الكتاب!
قلة فقط، يمكننا أن نقول إن مقالاتها المتفرقة تمتلك معماراً، وتهم آخرين، غير الكاتب نفسه.
عبدالفتاح كيليطو من هذه القلة، التي نتذوق أرزها المطبوخ في اليوم السابق، ولا نكاد نلحظ التعسف في الجمع بين عزيف الجن والكلام إلى السلطان وكيفية قراءة كليلة ودمنة ومنمنمات الواسطي وولع رولان بارت بالرواية ولغة القارئ!
هذه هي موضوعات مقالات كيليطو في كتابه الجديد الصادر عن توبقال:'شرفة ابن رشد' في ست وسبعين صفحة، ترجمها عبدالكبير الشرقاوي.
قراءات، بعضها منشورة سابقاً وبعضها يطل بها كيليطو للمرة الأولى، من هذه الشرفة طيبة الهـــواء. ولا يكاد القارئ ينتبه إلى ما يجمع هذه القراءات المنوعة، اكتفاء برابطها الأساسي وهو القارئ نفسه.
بالتأكيد هناك هاجس موحد في عدد من مقالات الكتاب، هو الترجمة وعمل المترجم، خصوصاً في مقالي: 'كيف نقرأ كليلة ودمنة' و'من شرفة ابن رشد'، لكن الرابط الأقوى هو طريقة قراءة كيليطو، قراءة مسننة لا تذهب في اتجاه واحد.
لا نقف في قراءته لكليلة ودمنة عند الترجمة فقط، بل عند السرد 'حيلة الضعيف' في هذا الكتاب وفي الكتاب الأشهر منه 'ألف ليلة' فالقوي ليس بحاجة إلى الإقناع، لأن بمقدوره إهلاك مخاطبه بخبطة من كفه 'لا يروي الخليفة أبداً حكاية إلا أن يكون خليفة مخلوعاً'.
في المقال الذي أعطى الكتاب عنوانه 'من شرفة ابن رشد' نرى تلك القراءة المسننة، فهو ينطلق من جملة رأى في حلمه أن ابن رشد قالها، وعلى هيئة متاهة بورخيسية يمضي السرد، هل قائل العبارة هو ابن رشد حقاً، وأين قالها وكيف؟ هل كان يطل من شرفته ويستمع إلى مشاجرات الصبية في شبه الجزيرة الأيبيرية يتصايحون بلهجتهم الإسبانية الناشئة بين المسلمين العوام، هل قالها لأنه يتكلم لغة الفلاسفة التي لا يفهمها العوام، وإذا لم يكن قالها، بينما كيليطو حلم أنه قالها، فما المانع أن يكون قالها فعلاً!
لا تقف المتاهة الكيليطية عند حدود العبارة فقط، بل في التداخل بينه وبين مترجمه إلى العربية (ع.ك) الذي لا يفتأ يعنفه ويتهمه باحتقار العربية، (ع. ك) الذي يحدق فيه بحقد هو نفسه ناظراً قرينه في المرآة، ولا ننتهي بيقين أن قائل الجملة هو المصري ابن منظور في مقدمة 'لسان العرب' وبالتالي فالعجمة التي تهدد لغتنا هي التركية، لا الفرنسية كما ذهب طلاب كيليطو الذين جرب فيهم حلمه.
كيليطو يعتبر الترجمة فعل حب غالباً، فعل حرب أحيانا. ويمكننا أن نقول الشيء نفسه عن القراءة، التي بوسعها أن تكون ملامسة أو مداهمة.
يقرأ كيليطو الكتب بينما يداهمها الآخرون. المداهمون يغزون الكتب ويعودون سريعاً بالأسلاب التي يقيمون معرضها أمام القراء، ويكتشفون من انصرافهم عنها عدم نفعها. قراءة كيليطو ملامسات حنون للنصوص لا يعود منها بأسلاب يضعها أمام القارئ، بل يحفزه للذهاب بنفسه إلى الكنز.
ثمرات حب الكتب التي نراها في قراءات كيليطو، تجعلنا نشتهي الكتب التي قرأها، وتفتح حواسنا على تجاربنا الخاصة.
في إحدى حفلات توبيخه من قبل نفسه أو من قبل المترجم (ع.ك) نقرأ:'لماذا تورط القدماء في استيهاماتك؟ وتضيفون أن الأسوأ هو أن قراء يعتقدون أنك تكشف عن المخبوء في نصوص الماضي فيما أنت لا تكشف إلا عن خبيئتك..'.
هذا صحيح جداً، لكنه لا يفعل ذلك ليفرضها، بل ليرسل قارئه نحو أبواب خبيئته الخاصة.
هكذا لم يكن من السهل أن أسلم معه بأن السرد سلاح الضعيف. لماذا إذن سعى صدام والقذافي إلى السرد؟
كيف حملتني وقفته في (شرفة ابن رشد)، إلى قاعة بلا شرفات، سعت فيها سيدة مخلصة للحياة إلى إعادة تدوير بقايا الطعام، هل فعلت ذلك حقاً؟ وإن كانت فعلت؛ فهل كانت تتحدث عن الطبخ أم عن الكتابة؟
a