القاهرة - 'القدس العربي' بعد رحلة ليست قصيرة في مشواره الفني قرر السينارست بلال فضل تغيير مساره لينظر إلى السينما نظرة أخرى غير تلك النظرة التجارية التي كونت له قاعدة جماهيرية عريضة، وأنطلق منها بعد ذلك إلى آفاق سينما تختلف شكلا ومضمونا، وهذه الشهادة يستوجب المقام الإدلاء بها قبل أن نبرهن عليها بما شاهدناه وسمعناه في أحداث فيلم 'بلطية العايمة' الذي كتبه بلال وأخرجه على رجب وقامت ببطولته عبلة كامل نفس الثلاثي الذين كانوا شركاء في تجارب سابقة أيدها الجمهور ورفضها بعض النقاد، التحول الذي لوحظ في مسيرة الشركاء الثلاثة كان مصدره الكاتب صاحب الإمتياز الأول في الرؤية الدرامية، حيث كل العناصر الفنية الأخرى تأتي على خلفية ما يخطه قلم المؤلف والسيناريست، بما فيها الأداء التمثيلي والإخراج والموسيقى والإضاءة والمكساج والمونتاج والديكوباج.. إلى آخره، في رأيي أن بلال فضل كان أكثر نضجا في فيلمه الأخير المذكور سلفا، فقد إستفاد من أخطائه وأعمل موهبته بشكل صحيح فأنعكس ذلك على النظرة الشمولية للفيلم الذي مثل مصر في المسابقة العربية بمهرجان القاهرة السينمائي، وهو مايعد إضافة أدبية تؤكد ما ذكرناه عن التحول الإيجابي في المسيرة الثلاثية.. لقد بدا واضحا في السيناريو الإنحياز لطبقة المهمشين.. المنفيين خارج نمط الحياة الآدمية.. هؤلاء البشر الذين نرى صورهم في صفحات الحوادث الحكومية بوصفهم عناصر خارجة على القانون طوال الوقت، ليس بهم مايثير الشفقة أو يحتم التعاطف لأنهم مجرمون بالفطرة يسكنون مناطق إستولوا عليها بوضع اليد وقانون البلطجة ويتحدون السلطات بجرأة غير مسبوقة في وقت تبحث الحكومة عن حلول جذرية لمشكلاتهم، لكنه التهور يضع دائما أصحابه تحت طائلة قانون الطوارئ.. مشهيات ومكونات الصورة الدرامية يرسمها بلال فضل على الورق ويجسدها علي رجب وتنفخ فيها عبلة كامل من روحها فتتحول إلى لحم ودم، 'بلطية العايمة' الشخصية المحورية يموت زوجها ويترك أطفالا صغارا في عنقها وشقيقة على 'وش جواز' تقيم معها في الكيان الهلامي المسمى مجازا بالبيت يصارعان الأمواج سويا، حيث لقمة العيش تحتاج إلى الطأطأة والتنازل وهو ماترفضه الشقيقة الكبرى، فيما ترى الصغرى أن الحياة فرص وقطار العمر لاينتظر كثيرا وإزاء هذه القناعة تضحي بحبها للشخصية التي تشبهها إدوارد أحد ضحايا الفقر والبؤس والخراب.. بلطية تتمتع بروح البيئة السكندرية يغلب عليها المرح وتميل إلى الفكاهة برغم ما تحمله من مآس وأشجان فهي تقاوم زواج شقيقتها من تاجر المخدرات بطريقة كوميدية ولاتكترث بردود الأفعال، بل على العكس تشعر بالإنتشاء بعد نجاحها في إفشال الزواج غير المتكافئ بين فتاة في سن الشباب ورجل خارج على القانون جاوز عمره الخمسين، لم تكن هذه هي المعركة الوحيدة للبطلة وإنما خاضت معارك كثيرة أكثر ضراوة ربما يكون أبرزها وقفاتها الإحتجاجية ضد الإستقلال الرأسمالي لرجل الأعمال سامي العدل الذي يرغب في شراء بيوت الغلابة لتحويلها إلى منتجع سياحي أو ماشابه، وإن كانت الحاجة الشديدة قد دفعتها إلى التسليم أمام الضغوط لكنها ظلت ثابتة على المبدأ لم تبرح مكانها وباتت تقاوم الفقر بكل الحيل والوسائل الممكنة، حتى انها عملت مندوبة مبيعات غير مستكفية أن تكون تابعة لفتاة صينية في عمر أولادها، تجوب الشوارع والحارات ببضائع بائرة بغير جدوى وهذه المشاهد على وجه التحديد كانت الأكثر إيلاما في مرثية بلال فضل الفنية التي أراد أن تكون إشارة واضحة لتوحد الشعوب في الأزمات على إختلاف ثقافاتهم ودرجات وعيهم، لكن شيئا ما سقط من مفردات التركيبة الدرامية التي صاغها لا شك بحرفية عالية تتمثل في تحالف الطبقة المهمشة مع الرأسمالية المتوحشة برغم ما بينهما من فوارق وحواجز وأضداد ترجمت في إستجابة بلطية أو عبلة كامل للعمل مع تاجر المخدرات الذي يفتتح محلا تجاريا لغسيل الأموال فضلا عن قبول الشقيقة الصغرى الزواج بسهولة من رجل هي تعرف أنه فاسد ويتاجر في الممنوع..
إضافة إلى إنحناء البطلة أيضا ورضوخها لتهديدات'سامي العدل' ونزوعها إلى بيع البيت، الموقف الذي يوازي في معناه بيع القضية والتسليم بمبدأ التفريط، كما أن موقف بلال من السلطة التي مثلها في الفيلم ضابط البوليس كان حياديا للغاية، كما الذي يريد أن يمسك العصا من المنتصف ليمرر أشياء أخرى يرى أنها أهم من الوقوف أمام التفاصيل الصغيرة، علما بأن ظهور الضابط بالشكل المثالي الذي رأيناه ليس تفصيلة صغيرة ولكنه نواة من الممكن أن تبني عليها مفاهيم كبرى، ولكن ربما كل من يكون السيناريست والمخرج معذورين أو مضطرين لأسباب رقابية تفرض أحيانا ألوانا من التحايل والكذب لتظهر صورة رجل الأمن بيضاء بغير سوء أو سواد، وبغض النظر عما يكون قد فات على صناع الفيلم أو فوتوه قسرا أو طواعية فإن المضمون الإجمالي كان إيجابيا لأن بعض النصر قد تحقق لهؤلاء البسطاء المعدمين الذين يسكنون على هامش مدنية ساحلية توصف بأنها عروس البحر المتوسط طبقا للحكم المبدئي على الشكل الخارجي الذي يخفي ندوب وجروح وقبور تشتم روائحها في الصورة الدرامية المنقولة عبر شاشة العرض والشريط الفضي لتعلن أن مكونات الصورة المجازية عن الإسكندرية الجميلة المبتدية في أحيائها الراقية سان ستيفانو وستانلي ولوران وسبورتنغ وميامي، محض تزييف لأن الحقيقة الجلية تكمن تحت السطح اللامع للوجه البراق وتلك براعة التفتيش فيما هو تحت السطح، حيث الإلمام قبل ما تعانيه مدينة الإسكندر الأكبر من أمراض تبدو مستعصية أمام حالات الإهمال والتهميش والنفى للغالبية من سكانها الأصليين، لزوارها ومستثمريها وسماسرتها الذين يقفون على قارعة الطريق ينتظرون نصيبهم من التركة في مشروعات التقسيم والبيع القائمة على قدم وساق..
قبل أن أتحدث عن جماليات الصورة الآخاذة عن محسن نصر والموسيقى التصويرية والألحان الشجية والصوت الموجوع بألم الناس الطيبين، حيث يغني صاحبه إيمان البحر درويش من القلب لأهله وعشيرته وبلدياته، أود ان أنوه عن شيء اراه أساسيا في توحد الجمهور مع الأبطال وهو لحظات الصدق عن البطلة عبلة كامل التي كثيرا ما لجأت للبحر عن الضيق لتغسل همومها ويلامس جسمها الماء البارد فتنطفئ نيران الغلب والعذاب المتقدة بداخلها من فرط معاناتها اليومية وكفرها بكل القوانين الإنسانية والوضعية ويأسها من وجود منفذ يفك أسرها ويحررها من عبودية الحياة القاسية التي لا يضام فيها سوى الإنسان البسيط الذي يخطئ الطريق فيذهب إلى جلاده حاملا طلب الإغاثة فلا يجد سوى أياد غليظة تقوده إلى غياهب الظلام والظلم وهو المعنى المجرد الذى جاء عابرا عبور الموكب الرسمي للشخصية الهلامية ذات النفوذ والنفاذ، تلك التي ترك السيناريست مهمة تحديدها بدقة للمشاهد الذكي!
أعجبني موكب آخر لتاجر المخدرات ضياء الميرغني في الزفة الأسطورية التي تقدمتها الموتوسيكلات حين أراد الرجل الخارج على القانون أن يتزوج مي كساب أخت بلطية العايمة زواجا حلالا قوامه الثراء الفاحش الآتي من فلوس (البودرة)، لكن شيئا من أحلامه لم يتحقق فقد نهضت 'بلطية' وحطمت كل آماله في إتمام الزواج القسري لتصبح النهاية المنطقية مربوطة بالعودة إلى الحبيب الأول، إبن الجيران الكادح صاحب الإستحقاق في الزواج الشرعي والإستقرار المبني على التكافؤ والتجانس والتقارب الطبقي والشعور الصادق بالإنتماء لشخص يشبه العروسة وتشبهه.
81
[code]